“تقيّة” روسيّة وأوروبا تنظّف الملاجئ وتجدّد المستشفيات..

مدة القراءة 7 د

تشهد العلاقات بين روسيا وأوروبا مرحلة دقيقة من التحوّل الاستراتيجيّ، مع تصاعد التوتّرات الميدانيّة في أوكرانيا وتبدُّل موازين القوى العالميّة. تحاول موسكو فرض معادلة جديدة تعيد لها نفوذها التاريخيّ، فيما تسعى أوروبا إلى حماية أمنها ووحدتها وسط انقسام أطلسيّ متنامٍ. تزداد المخاوف من أن تكون القارّة العجوز مقبلة على عقدٍ من المواجهة الطويلة.

 

أُلغيت قمّة بودابست، النسخة الثانية من قمّة ألاسكا. إذ لا يريد الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب إضاعة المزيد من الوقت مع فلاديمير بوتين في موضوع غير ناضج. استعاض عن ذلك بنشاط دبلوماسيّ جديد تمثّل في اتّفاق سلام بين تايلند وكمبوديا، إضافة إلى جولة آسيويّة راقصة.

تُظهر المواقف الروسيّة المتقابلة عدم رغبة الكرملين في إنهاء الحرب مع كييف من دون الحصول على اعتراف أوكرانيّ وأوروبيّ بالسيادة الروسيّة على الأراضي المحتلّة. تسعى موسكو إلى العودة إلى ماضٍ لن يعود، فيما تخشى أوروبا مستقبلاً جديداً لا فكاك من بلوغه. تتكاثر الخطط لوقف الحرب، وترتفع وتيرة الاستعدادات لها. وتتهيّأ أوروبا لخوض سنوات من الحرب الاستنزافيّة غير الكلاسيكيّة.

ثبات الأهداف البوتينيّة

لا تزال الأهداف البوتينيّة قائمة، وإن كان بوتين عاجزاً عن تحقيقها. ينتهج مبدأ التقيّة والمغامرات السياسيّة متستّراً بستائر “حماية الأمن القوميّ والأوراسيّ” و”محاربة النازيّة”. تستمرّ روسيا في مطالبها عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسيّ، وتناقش إمكان التخلّي عن تسوية بوخارست مقابل إنهاء مناورات الناتو قرب حدودها. يُضاف إلى ذلك مطلبها وقف جميع أشكال التعاون العسكريّ بين الدول الأعضاء في الناتو وأوكرانيا.

يتنامى الخوف الأوروبيّ الجدّي من احتمال هجوم روسيّ على الحلف الأطلسيّ خلال السنوات المقبلة

تتشكَّك موسكو في شرعيّة توسّع الناتو ليشمل دول أوروبا الوسطى والشرقيّة، ولا سيما تلك التي كانت منضوية سابقاً في حلف وارسو. في المقابل، يتمسّك العديد في موسكو بمبدأ التسوية الواقعيّة، ويلتقي هؤلاء مع دونالد ترامب خوفاً من هزيمة استراتيجيّة. تخشى موسكو توسّع حلف شمال الأطلسيّ وتراجع نفوذها في جغرافيا ما بعد الاتّحاد السوفيتيّ، علاوة على اعتمادها غير المسبوق على الصين.

تستكمل روسيا حربها في سبيل تحقيق حلمها السياسيّ، إذ تسعى إلى العودة إلى العصر السوفيتيّ باعتباره أفقاً للمستقبل. تتجلّى الخطورة في إعادة أوروبا إلى مرحلة ما قبل الحربين الكونيّتَين الأولى والثانية، وهو ما قد يقود إلى عسكرة القارّة الأوروبيّة ونموّ القوميّات فيها بعد عقود من الاسترخاء.

لم تتوقّف عسكرة روسيا بعد انهيار الاتّحاد السوفيتيّ، وقد تحقّقت نتائجها العمليّة مع غزو أوكرانيا بعد ضمّ شبه جزيرة القرم والهجوم على أبخازيا في جورجيا. ترتكز “أحقّية الكرملين” في العسكرة على سرديّات عديدة، أبرزها:

1- الخرق الأميركيّ للتفاهم مع ميخائيل غورباتشوف، وتصرّف واشنطن المزعج من وجهة النظر الروسيّة، وكأنّها المنتصرة الوحيدة في الحرب الباردة من دون شراكة موسكو.

2- توسّع الناتو الاستفزازيّ إلى حدود روسيا وضمّ دول الفضاء السوفيتيّ السابق في أوروبا الشرقيّة.

3- التلاعب الأوروبيّ والوعود بضمّ أوكرانيا إلى الاتّحاد الأوروبيّ وحلف شمال الأطلسيّ.

4- تحدّي النظام الدوليّ الأحاديّ والسعي إلى إقامة نظام متعدّد الأقطاب لا هيمنة أميركيّة فيه.

تتشكَّك موسكو في شرعيّة توسّع الناتو ليشمل دول أوروبا الوسطى والشرقيّة، ولا سيما تلك التي كانت منضوية سابقاً في حلف وارسو

زعامة أوراسيّة

يريد الرئيس الروسيّ الزعامة على الاتّحاد السلافيّ والأوراسيّ، الذي يضمّ بيلاروسيا وروسيا وأوكرانيا والجزء الشماليّ من كازاخستان. يطلب من الغرب الإقرار بهيمنته على المنطقة الأوراسيّة، فيما تُعتبر الحرب الأوكرانيّة شقّاً أساسيّاً من هذه الخطّة. لا ترغب موسكو في العودة إلى نقطة الصفر في مواجهة حلف الناتو.

يتجلّى هذا الواقع مع ابتعاد واشنطن عن التزاماتها الأوروبيّة والأطلسيّة، واعتمادها مبدأ “أميركا أوّلاً” ومنطق المصالح البراغماتيّة، وهو ما يؤدّي إلى انقسامات فعليّة في الجسم الأطلسيّ الأوروبيّ والأميركيّ. ترتدّ هذه التوجّسات على أوروبا فتُغيّر طبيعة العلاقات بينها وبين الولايات المتّحدة، وتجعل من الدول الأوروبيّة وكأنّها منافسة للقرار الأميركيّ، مع تباين المصالح والأولويّات وتبدّل طريقة التعامل مع التحدّيات والعلاقات الروسيّة.

أوروبا

يُعدّ هذا تحقيقاً مباشراً للآمال الروسيّة، إذ يعزّز توجّهاً أوروبيّاً نحو الاستقلاليّة المتزايدة. يتجلّى ذلك في سعي أوروبا إلى الظهور كقطب موحّد ومستقلّ أكثر جرأة على الساحة الدوليّة، يُصدر مواقفه الخاصّة في مواجهة الصين، ويتصدّى لروسيا بشدّة، بالتوازي مع معارضته للأفكار والسياسات الأميركيّة.

الخوف الأوروبيّ المتصاعد

يتنامى الخوف الأوروبيّ الجدّي من احتمال هجوم روسيّ على الحلف الأطلسيّ خلال السنوات المقبلة. ثمّة قلق فرنسيّ وألمانيّ متزايد. إذ إنّ المسافة بين استراسبورغ وأوكرانيا ليست بعيدة. يُطرح السؤال في الكواليس: هل تكون الألزاس بعد الدونباس؟

تشهد الأروقة الأوروبيّة تحضيرات استباقيّة واستعداديّة للحرب المرتقبة، تُنفَّذ بخطوات عمليّة تمتدّ على مدى السنوات الخمس المقبلة. صدرت توجيهات أوروبيّة وفرنسيّة وألمانيّة شاملة لتحضير المستشفيات والملاجئ في العام المقبل. لم يعد التركيز الفرنسيّ على الأمن السيبرانيّ فقط، بل قدّمت المفوضيّة الأوروبيّة مسوّدة عمليّة لمساعدة العواصم الأوروبيّة في مواجهة احتمال الحرب.

تشهد العلاقات بين روسيا وأوروبا مرحلة دقيقة من التحوّل الاستراتيجيّ، مع تصاعد التوتّرات الميدانيّة في أوكرانيا

يأتي ذلك بالتزامن مع تحوّل الترتيبات إلى قرارات تنفيذيّة فوريّة، وإعادة تهيئة البنية التحتيّة الحربيّة المناسبة. أصبح الخطاب الفرنسيّ أكثر حدّة تجاه روسيا، انطلاقاً من فرضيّة أنّ الهجوم على كييف لن يكون الأخير، وأنّ احتمال تكراره على القارّة العجوز مرتفع جدّاً، مع إعادة تنظيم العقيدة الروسيّة السلافيّة صفوفها وتوازنها لمواجهة الحلف الأطلسيّ والأوروبيّ.

الرّهان الرّوسيّ على الانقسام الأطلسيّ

تواصل روسيا رهانها على وجود انشقاق داخل التحالف الأطلسيّ، ولن تتخلّى عن طموحاتها حتّى بعد رحيل الرئيس فلاديمير بوتين. يتمحور هدفها حول بسط نفوذها في أوروبا الشرقيّة وتقويض مبدأ الدفاع الجماعيّ.

تحفّز موسكو صعود الشعبويّة اليمينيّة التنفيذيّة، وتعمل على إضعاف الاتّحاد الأوروبيّ ومؤسّساته، بما يؤدّي في النهاية إلى انهيار حلف شمال الأطلسيّ. تخطّط لاستغلال ثغرات المادّة الخامسة من ميثاق الحلف، من خلال تسلّل محدود ضمن النطاق الشرقيّ للحلف خلال السنوات المقبلة. إذ تقتنع أوساط عديدة في موسكو بأنّ أعضاء الناتو قد لا يتوافقون جميعاً على تفعيل المادّة الخامسة في حال وقوع هجوم محدود، وهو ما سيؤدّي حتماً إلى إضعاف الحلف وتفكّكه.

تتابع موسكو الاستفزازات الصغيرة المتكرّرة التي قد تقود إلى انقسام الحلف إلى معسكرات مختلفة: بين دول تفضّل الردّ العسكريّ الفوريّ وأخرى تميل إلى التفاوض. يعزّز هذا الفعل الهدف الروسيّ المتمثّل في صعود التيّارات اليمينيّة في أوروبا خلال السنوات المقبلة، وهي التي تُعرف بالتزامها الضعيف تجاه الناتو والاتّحاد الأوروبيّ.

أوروبا بين الماضي والمستقبل

تمرّ القارّة العجوز بمرحلة تحوّلات نافرة تستعيد فيها مشاهد قاتمة من الحرب الباردة، وتسعى إلى صياغة ميزان جديد للقوميّات الأوروبيّة الاتّحاديّة. تتبدّل عقيدتها الأمنيّة ومبادئها الدفاعيّة ببطء، وتصرّ على استمراريّة الاتّحاد الأوروبيّ وتماسك الناتو.

إقرأ أيضاً: أزمة الحكم الفرنسية: اختبار صعب للجمهورية الخامسة

تواجه أوروبا تكتيكات روسيّة متصاعدة تستهدف منشآتها الحيويّة، وتخشى من توسّع الحرب إلى مواجهة هجينة غير تقليديّة.

يبقى السؤال: هل تكون السنوات المقبلة صعبة على القارّة العجوز… أم على روسيا؟

 

لمتابعة الكاتب على X:

@ElMehiedine

مواضيع ذات صلة

ضمّ الضّفّة الغربيّة: التّشريع يلاقي الضمّ الزاحفاً

منذ احتلال إسرائيل للضفّة الغربيّة عام 1967، لم تتوقّف محاولات الحكومات الإسرائيليّة عن ابتكار صيغ قانونيّة وسياسيّة تُكرّس السيطرة على الأرض الفلسطينيّة. إلّا أنّ التطوّرات الأخيرة…

الشرع- ترامب: ماذا دار في “الاجتماع السّرّيّ”؟

استغرقت رحلة الرئيس السوريّ أحمد الشرع أحد عشر شهراً من إدلب إلى واشنطن. من يستمع إلى كلمات الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، منذ لقائهما الأوّل في…

لبنان يدور على ذاته… وسوريا في البيت الأبيض!

يُفترض أن يميّز الوضوح الخطاب السياسيّ اللبنانيّ في وقت تزداد الضغوط الأميركيّة، ذات الطابع الماليّ والاقتصاديّ، على البلد من جهة، والضغوط العسكريّة الإسرائيليّة من جهة…

نتنياهو يُعمّم الفوضى… ليستمرّ

منذ تشكيله ائتلافه اليمينيّ المتطرّف في كانون الأوّل 2022، يجد رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو نفسه أمام أزمات تتراكم ولا تنتهي، من فضائح فساد شخصيّة،…