أزمة الحكم الفرنسية: اختبار صعب للجمهورية الخامسة

مدة القراءة 5 د

تعيش فرنسا اليوم أزمة حكم حقيقية تهزّ أسس الجمهورية الخامسة، إذ تحوّل الصراع حول الحكومة إلى معركة مفتوحة بين السلطة والمعارضة، في ظلّ ضبابية الأغلبيّة البرلمانية وغياب الأقليّة المنظمة. فالمعادلة السياسية الراهنة تقوم على مجهولَي الأغلبيّة والأقليّة، ما يجعل الحكم هشًّا، والديمقراطية الفرنسية أمام اختبار صعب.

 

 

ديناميكية الحكم ومحاولات الإليزيه

يسعى الفريق الرئاسي في فرنسا إلى تأمين حدٍّ أدنى من الأغلبيّة البرلمانية يتيح له الحكم بأقلّ قدرٍ من الاضطرابات، فيحاول إدارة المرحلة السياسية بـ«البرودة» المطلوبة لتجنّب العواصف داخل الإليزيه.

في المقابل، تعمل المعارضة على تجميع أكثريّات ظرفيّة بهدف إسقاط الحكومة، ما يجعل الصراع بين الجانبين صراعَ بقاءٍ سياسيٍّ أكثر منه صراع برامج أو سياسات.

نجت حكومة سيباستيان لوكورنو الثانية من محاولتين متتاليتين لحجب الثقة، رغم أنها ما زالت في مهدها، وفي وضعٍ هشّ. ومع ذلك، تُعدّ هذه الحكومة خطوة مهمّة تُظهر عودة المساءلة السياسية إلى مركز الحياة المؤسسية في الجمهورية الخامسة.

لكنّ التأليف السريع لحكومةٍ تفتقر إلى التسوية البرلمانية جعلها محاصرة بالتحديات، ما يهدّد استمراريتها ويجعل بقاءها كامل الصلاحيات أمرًا محفوفًا بالمخاطر.

تعيش فرنسا اليوم أزمة حكم حقيقية تهزّ أسس الجمهورية الخامسة، إذ تحوّل الصراع حول الحكومة إلى معركة مفتوحة بين السلطة والمعارضة

أهداف متعارضة: الإليزيه والمعارضة

تتحرّك الإدارة الفرنسية اليوم وفق هدفين رئيسيين:

مخطّط الإليزيه:

يسعى إلى “خياطة” أغلبيّة هجينة تمدّد عمر الحكومة وتؤمّن استقرار العهد الرئاسي.

استراتيجية المعارضة:

في المقابل، يعمل خصوم العهد الماكروني، من اليمين واليسار، على الترويج لتحالفات متفرّقة لإسقاط الحكومة.

اليمين يطمح إلى انتخابات تشريعية مبكرة، مستندًا إلى ارتفاع النقمة الشعبية على السلطة، ويستغلّ موجة الغضب الاجتماعي لتوسيع قاعدته الانتخابية.

اليسار يستثمر الفوضى لزيادة الضغط على الإليزيه، طمعًا في إنهاء الفترة الرئاسية قبل موعدها، مستعينًا بالشعارات الاجتماعية والاقتصادية والمطلبية. وهو وإن يفتقر إلى رؤية حكم متماسكة، إلا أنه يعرف جيّدًا كيف يعارض ويتظاهر.

مساكنة سياسية ثلاثية

تتوزّع القوى الحاكمة اليوم بين الإليزيه والحكومة والجمعية الوطنية، في ما يشبه مساكنة سياسية ثلاثية الهدف منها تجنّب الصدام المباشر. ولهذا جرى تعليق معظم المشاريع التي تثير حفيظة اليمين أو اليسار، بانتظار تسويةٍ محتملة.

غير أن هذا الوضع المجمّد لا يخلو من مخاطر، إذ يطمح البعض إلى تحويل الأزمة البرلمانية إلى أزمة نظام، وهو تطوّر بالغ الخطورة.

الأزمة الراهنة في فرنسا ليست أزمة دستورية، فكلّ الإجراءات ما زالت ضمن القانون، بل هي أزمة سياسية عميقة ناجمة عن فقدان الديمقراطية عنصرَيها الحيويين: الأغلبيّة الفاعلة والأقليّة المسؤولة

تحوّل اقتراح حجب الثقة

تحوّل اقتراح حجب الثقة في السنوات الأخيرة من أداةٍ دستوريةٍ للرقابة إلى وسيلةٍ سياسيةٍ للمواجهة والإقصاء.

فبعد حلّ الجمعية الوطنية في صيف 2024، جاءت الانتخابات التشريعية لتكرّس برلمانًا منقسمًا ومشرذمًا، استخدم بدوره سلاح حجب الثقة انتقامًا من الحكومة التي أكثرَت من تفعيل الفقرة الثالثة من المادة (49) من الدستور، أي تمرير القوانين دون تصويت برلماني.

ومنذ ذلك الحين، باتت معركة الائتلافات الحكومية تتكرّر دون منهجية واضحة، بسبب اختلال التوازن بين المعارضة والموالاة. عرفت فرنسا في السابق المساكنة الدستورية بين فريقين، لكن المساكنة بين أكثر من عشرة أحزاب تشكّل وضعًا غير مسبوق في تاريخها الحديث.

ضمانات الدستور ومحدودية فاعليتها

صُمِّم دستور الجمهورية الخامسة (1958) لتجنّب الانقلابات الحكومية المتكرّرة التي شهدتها الجمهورية الرابعة، فوضع ثلاث ضمانات أساسية لمبادرة حجب الثقة:

حدٌّ أدنى من التواقيع لتقديم الاقتراح.

مهلة يومين بين التقديم والتصويت.

شرط الأغلبيّة المطلقة لنجاحه.

وقد نجحت هذه الآلية طويلاً في تحقيق الاستقرار الحكومي، لكنها اليوم فقدت فعاليتها مع تغيّر الخريطة السياسية وتفكّك الأحزاب الوسطية التقليدية، وصعود التطرّف اليميني واليساري، ما جعل البرلمان ساحةً للتحالفات المؤقتة والمزايدات بدل العمل التشريعي المنتظم.

إقرأ أيضاً: ساركوزي في السّجن… آخر ضحايا القذّافي

أزمة سياسية لا دستورية

الأزمة الراهنة في فرنسا ليست أزمة دستورية، فكلّ الإجراءات ما زالت ضمن القانون، بل هي أزمة سياسية عميقة ناجمة عن فقدان الديمقراطية عنصرَيها الحيويين: الأغلبيّة الفاعلة والأقليّة المسؤولة.

لقد تلاشت الحدود بين الحكم والمعارضة، وترنّحت معايير المحاسبة، وبات البرلمان فاقدًا للفعالية التشريعية، منشغلاً بإسقاط الحكومات أكثر من التشريع أو الرقابة.

ولا يبدو أن محاولات الإليزيه لاستمالة اليسار أو عزل اليمين قادرة على تأمين استقرار المرحلة. فالحلّ لا يكمن إلا في عودة البرلمان إلى الحياة الديمقراطية السليمة، عبر أغلبيّة واضحة وأقليّة معارِضة مسؤولة، بما يعيد التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية ويمنع الفوضى السياسية التي وصلت إلى ذروتها مع حجب الثقة من أجل الحجب فقط.

مواضيع ذات صلة

نهاية نظام الإقطاع السّياسيّ

لم يتبقَّ من “نظام أبوات” الطوائف في لبنان، سوى أشباح زعامات تصارع عند عتبة الشيخوخة. حالة اليتم الصامتة التي تسيّج واقع الطائفة الشيعيّة بشكل أوضح…

بن سلمان إلى واشنطن: النووي الإيراني ورسم التّوازنات

قبل أيّام من وصول وليّ العهد السعوديّ الأمير محمّد بن سلمان إلى واشنطن، تتّجه الأنظار إلى البيت الأبيض حيث يُنتظر أن تشكّل الزيارة محطّة مفصليّة…

دستور فلسطينيّ بنكهة فرنسيّة

اتّفق الرئيس الفلسطينيّ محمود عبّاس مع نظيره الفرنسيّ إيمانويل ماكرون خلال اللقاء الذي جمعهما في باريس في 11 تشرين الثاني، على تشكيل لجنة مشتركة تعمل…

لقاءات لوجاندر اللّبنانيّة: التّرسيم والميكانيزم

تأتي زيارة مستشارة الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون، آن كلير لوجاندر، لبيروت تعبيراً طبيعيّاً عن الحضور الفرنسيّ الدائم. زيارتها مكمّلة وغير متعارضة مع زيارات الموفد الرئاسيّ…