الثلاثاء 21 تشرين الأوّل. غادر نيكولا ساركوزي منزله باكراً بصحبة زوجته كارلا. ارتديا ألواناً داكنة تعكس الحال النفسيّة للزوجين. صافح الرئيس الأسبق رجال الشرطة، وألقى التحيّة على مناصريه الذين تجمّعوا بدعوةٍ من نجله لويس. كلمة واحدة قالها: “شكراً”. انتهى الكلام. دقّت ساعة الحقيقة. غادر الرئيس الأسبق منزله في الدائرة السادسة عشرة الفاخرة، ليدخل سجن “لا سانتيه” في الدائرة الرابعة عشرة.
زنزانة الرئيس الفرنسيّ الأسبق نيكولا ساركوزي في الجناح المخصّص للمساجين الـVIP. إنّهم الخطرون أمنيّاً أو المعرّضون لخطرٍ أمنيّ. مثالٌ عن الفئة الأولى “كارلوس الإرهابيّ” الذي ينفّذ عقوبة السجن مدى الحياة. أمّا ساركوزي فهو من الفئة الثانية. لذلك سيكون في الغرفتين الملاصقتين لزنزانته عنصرا شرطة، مهمّتهما السهر على أمنه في الغرفة ومرافقته في نزهته اليوميّة التي تستغرق ساعة واحدة.
جيرار دارمانان، وزير العدل وصديق ساركوزي، أعلن أنّه سيزوره في السجن للاطّلاع على ظروف الاعتقال، وهو إعلان أثار زوبعة من الانتقادات.
جيرار دارمانان، وزير العدل وصديق ساركوزي، أعلن أنّه سيزوره في السجن للاطّلاع على ظروف الاعتقال، وهو إعلان أثار زوبعة من الانتقادات
سابقة في فرنسا وأوروبا؟
تحتوي غرفة السجن على سريرٍ ومكتبٍ وبرّادٍ صغيرٍ، إضافةً إلى سخّانة. فيها أيضاً حمّام وغرفة استحمام، ومجهّزة بهاتفٍ أرضيّ يحقّ لساركوزي استعماله للاتّصال بأرقام محدّدة. الغرفة مجهّزة أيضاً بتلفزيون، كلفة الاشتراك فيه 14 يورو شهريّاً يدفعها ساركوزي.
أمّا في ما يتعلّق بالطعام، فسيتعيّن على الرئيس الأسبق تجهيز الترويقة صباحاً، في حين تُقدَّم له وجبتا الغداء والعشاء.
يشكّل دخول نيكولا ساركوزي السجن سابقة في تاريخ الجمهوريّة الفرنسيّة الخامسة، وحتّى في أوروبا، أمّ الديمقراطيّات في العالم. للمرّة الأولى يدخل رئيسٌ سابق السجن.
صدر الحكم في 25 أيلول، وقضى بالسجن خمس سنوات. شمل الحكم عدداً من مساعدي ساركوزي، أبرزهم كلود غايان مدير مكتبه وكاتم أسراره، وبريس هورتوفو وغيرهما.
أصدرت الأحكام القاضية ناتالي غافارينو، المشهود لها بنزاهتها وصرامتها وعدم خضوعها للضغوط. أمّا الجُرم فهو الحصول على أموالٍ من الرئيس الليبيّ الراحل العقيد معمّر القذّافي لتمويل الحملة الانتخابيّة الرئاسيّة في 2007. نجحت الحملة حينها، وفاز ساركوزي بالرئاسة، لكنّه فشل في التغطية على قضيّة الأموال التي كشفها القذّافي الأب والابن.
بدأت القضيّة في 16 أيلول 2011، حين كشف سيف الإسلام القذّافي في مقابلةٍ مع تلفزيون “يورونيوز” أنّ نيكولا ساركوزي تلقّى أموالاً من والده لتمويل حملته الانتخابيّة. حينها كانت الثورة الليبيّة قد اندلعت، وراحت الطائرات الحربيّة الفرنسيّة تقصف الوحدات العسكريّة التابعة للقذّافي.
قبل اعتقاله، قال العقيد القذّافي في مقابلةٍ تلفزيونيّة أيضاً: “جاءني (ساركوزي) يطلب الدعم الماليّ لخوض الانتخابات الرئاسيّة”. هذا ما أكّده لاحقاً رئيس المخابرات الليبيّة الأسبق عبدالله السّنوسي أمام المحكمة في أيلول 2012.
قبل اعتقاله، قال العقيد القذّافي في مقابلةٍ تلفزيونيّة أيضاً: “جاءني (ساركوزي) يطلب الدعم الماليّ لخوض الانتخابات الرئاسيّة”. هذا ما أكّده لاحقاً رئيس المخابرات الليبيّة الأسبق عبدالله السّنوسي
حقائب وملايين؟
بحسب وثائقيّ عن القضيّة شارك فيه العديد من معاوني ساركوزي، بينهم وزير الخارجيّة الأسبق برنار كوشنير، وهنري غينو مستشار ساركوزي، وجان لوك سيبيو سفير فرنسا الأسبق لدى ليبيا وغيرهم، قام نيكولا ساركوزي بزيارة الجماهيريّة في تشرين الأوّل 2005، بصفته وزيراً للداخليّة.
كان عنوان الزيارة مكافحة الهجرة غير الشرعيّة إلى أوروبا انطلاقاً من السواحل الليبيّة. وعلى هامش الزيارة، طلب ساركوزي دعماً ماليّاً لحملته في الانتخابات الرئاسيّة المقبلة (2007).
كان طموح الرجل إلى خلافة جاك شيراك قد برز منذ فوزه برئاسة حزب اليمين الديغوليّ عام 2004. وبعد سنة، تسلّم ساركوزي حقائب المال في وزارة الداخليّة في “ساحة بوفيه” في باريس.
نقل المال يتحدّث عنه رجل الأعمال اللبنانيّ – الفرنسيّ زياد تقيّ الدين أمام عدسة الكاميرا. الرجل لاعبٌ أساسيّ في القضيّة “توفي في العام 2020”. تعرّف إلى سيف الإسلام في باريس، ثمّ قابل الزعيم الليبيّ الذي طلب منه ترتيب اتّصالٍ مع ساركوزي. فكان الاتّصال الأوّل مع كلود غايان.
في تشرين الثاني 2006، تلقّى تقيّ الدين اتّصالاً من عبدالله السّنوسي دعاه فيه إلى ليبيا. هناك طلب منه نقل حقيبة مليئة بالمال إلى فرنسا وتسليمها إلى كلود غايان.
“لكن كيف سأغادر المطار؟ ماذا عن الجمارك؟”، سأل تقيّ الدين. أجابه السّنوسي: “لا تقلق، الداخليّة الفرنسيّة رتّبت كلّ شيء”.
هكذا كان. خرج تقيّ الدين من المطار كأيّ مسافرٍ عاديّ، حاملاً حقيبةً من الجلد الفاخر تحتوي على 1.5 مليون يورو. توجّه مباشرة إلى وزارة الداخليّة، ودخل مكتب غايان في الطابق الأوّل، ووضع الحقيبة على الأرض وغادر.
يُؤكد تقيّ الدين أنّه نقل حقيبتين مماثلتين، واحدة سلّمها إلى غايان أيضاً، وأمّا الأخرى فسلّمها لساركوزي نفسه في مكتبه في وزارة الداخليّة. لم يكن التسليم باليد، بل وضع تقيّ الدين الحقيبة على الأرض. دام اللقاء ثلاث أو أربع دقائق تبادل خلاله مع ساركوزي كلاماً عامّاً وغادر.
قبل اعتقاله، قال العقيد القذّافي في مقابلةٍ تلفزيونيّة أيضاً: “جاءني (ساركوزي) يطلب الدعم الماليّ لخوض الانتخابات الرئاسيّة”
هل يُطلَق سراحه؟
العلاقة “المميّزة” بين الرئيس والعقيد ستبرز مباشرةً بعد فوز الأوّل بالرئاسة (أيّار 2007). أوّل الغيث كان إطلاق سراح الممرّضات البلغاريّات الخمس اللواتي اعتُقلن في ليبيا وسُجنَّ مدّة ثماني سنوات. كانت المفاوضات العلنيّة تجري مع مفوّضيّة الاتّحاد الأوروبيّ، وأمّا الفعليّة فكانت مع ساركوزي وفريقه.
في تمّوز 2007، تسلّمت سيسيليا، زوجة ساركوزي السابقة، الممرّضات الخمس ونُقلن إلى بلدهنّ على متن طائرةٍ فرنسيّة.
بعد أيّام، حلّ ساركوزي ضيفاً على القذّافي في الخيمة، وخلال الزيارة جرى توقيع العديد من الاتّفاقات، بعضها دفاعيّ يقضي بتزويد ليبيا بأسلحة متطوّرة. ودعا ساركوزي نظيره الليبيّ للانضمام إلى مشروعه الجيوسياسيّ “الوحدة المتوسطيّة”.
في نهاية العام، قام العقيد بزيارةٍ رسميّةٍ لفرنسا استمرّت ثلاثة أيّام، طلب القذّافي تمديدها ثلاثة أيّامٍ إضافيّة لتتسنّى له زيارة المعالم الأثريّة في العاصمة التاريخيّة. نُصبت له خيمة في إحدى الحدائق القريبة من قصر الإليزيه.
إقرأ أيضاً: فرنسا تترنّح: جمهوريّة مُتعبة ونظام مأزوم
لم يكن الإعلام الفرنسيّ مرحِّباً بالزيارة، وعارضها الفرنسيّون. فالعقيد متّهم بإسقاط الطائرة الفرنسيّة UTA التي قضى فيها 170 مسافراً، بينهم 54 فرنسيّاً. لكنّ ساركوزي لم يأبه، حتّى إنّه رفض تأجيل الزيارة يوماً واحداً بناءً على طلب وزيرة حقوق الإنسان، لأنّ وصول القذّافي إلى باريس كان في 10 كانون الأوّل 2007، وهو اليوم العالميّ لحقوق الإنسان.
لمتابعة الكاتب على X:
