الرجل الأشقر المتفلّت من كلّ عقال. طالب ذات مرّة بإخلاء طهران تمهيداً لتسويتها بالأرض. ثمّ حمل هاتفاً ووضع السمّاعة في يد بنيامين نتنياهو ليعتذر على مسمعه من رئيس الوزراء القطريّ محمّد بن عبدالرحمن. جاء برئيس دولة عملاقة بحجم أوكرانيا وحوّله إلى أضحوكة. ثمّ جمع إفريقيا كلّها. وأوروبا كلّها. جلس خلف مكتبه طالباً من كلّ متحدّث أن يبدأ بذكر اسمه الثلاثيّ واسم البلد الذي يرأسه. خليط مهول لم تعرفه البشريّة إلّا مع دونالد ترامب. ذاك الرجل الذي ينام تماماً كما تنام العاصفة.
قالوا إنّ باراك أوباما هو خلاصة النسل السياسيّ المتماسك لمارتن لوثر كينغ. أوّل داكن بشرة يجلس على كرسي خُصِّص لناصعي البياض. في يمينه شهادة نوبل. قالوا إنّ جورج دبليو بوش أسقط بغداد من دون أن يرفّ له جفن. حين حاول العالم محاصرته، تأبّط توني بلير وأخذه معه منفرداً إلى فجيعة القرن. قالوا إنّ وينستون تشرشل، آخر الكبار في لندن، كان يتمشّى عارياً في البيت الأبيض، تماماً كما لو أنّه يتجوّل في غرفة نومه.
قالوا إنّ كبير القذاذفة كان يشحن خيمته إلى نيويورك. ومعها ناقةٌ وعنزةٌ وكلب. يفترش بها الأرض على مقربة من المقرّ الرئيس للأمم المتّحدة. في يده اليمنى صولجان ملك ملوك إفريقيا الذي اشتراه من القارّة السمراء. في يده اليسرى كتابه الأخضر، الذي ظلّ يطبعه حتّى صار أكثر الكتب طباعة في التاريخ بعد الإنجيل.
قالوا إنّ أدولف هتلر قرّر على نحوٍ مباغتٍ اجتياح موسكو، العاصمة العصيّة على الغزاة. عاند الجغرافيا ثمّ عاند التاريخ. زحف بجيش جرّار في أكبر عمليّة برّية على الإطلاق. فسقط منه في الطريق أكثر من مليون قتيل.
الرجل الأشقر المتفلّت من كلّ عقال. طالب ذات مرّة بإخلاء طهران تمهيداً لتسويتها بالأرض
جرفهم الطّوفان
قالوا وقالت الأساطير والحكايا عن رؤساء وملوك ومجانين. بعضهم برع في شيءٍ وخفت في أشياء. لكن لم يحدث في التاريخ أن ملَكَ رجلٌ واحد ما يمتلكه دونالد ترامب. في بداية مشواره السياسيّ، قبل رئاسته الأولى بسنوات، قالت صحيفة أميركيّة عريقة إنّ الحملة الإعلاميّة التي تتمحور حول الرجل باتت تُقدَّر بمئة مليار دولار، لم يدفع ترامب منها فلساً واحداً.
رحلته الصاروخيّة من سمسار يبيع العقارات في منهاتن إلى الرجل الأوّل على وجه الأرض، شكّلت بحدّ ذاتها سرديّة بالغة الاستفزاز والتعقيد. حاول خصومه الكبار أن يتجاهلوه فوجدوه حاضراً في يوميّاتهم وفي كوابيسهم وفي ردهات بيوتهم. حاولت الدولة العميقة أن تكبح اندفاعته فاندفع بلا هوادة. الرصاصة التي أخطأت جمجمته واخترقت إحدى أذنيه، استخدمها على الفور لهزيمة كلّ من كان يظنّ أنّه قادر على كبح جماحه. وقد فعل.
هذه واقعة تحتاج إلى وابل من الشجاعة واليقظة والطوباويّة والتخطيط لاستثمارها على هذا النحو من الكمال. وقف الرجل في وجه موتٍ مؤكّد، وهو يرفع قبضته للكاميرات التي صارت بينه وبينها قصص وحكايا لامست حدود التوأمة والالتصاق.
ليس في أميركا اليوم حزب جمهوريّ، ولا حزب ديمقراطيّ، ولا شخصيّات ولا فعّاليّات ولا برلمان ولا شيوخ ولا مدارس في السياسة وفي الدبلوماسيّة وفي علوم الاجتماع. كلّهم جرفهم طوفان دونالد ترامب إلى الأرشيف. ليست ثمّة ثوابت ولا حلفاء ولا أعداء ولا أعراف ولا أساسات ولا أصول. هذه مدرسة مختلفة تماماً، ليس عن المدارس السياسيّة في أميركا وحسب، بل عن كلّ مدرسة بزغت منذ فجر التاريخ.
حين وصل رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي إلى البيت الأبيض، كان ترامب يستقبله بوجبة سريعة من وجبات ماكدونالدز. طرده قبل أن يتناولها. ثمّ قال للصحافة إنّه أعطى الوجبة لعمّال النظافة في البيت الأبيض. وهو البيت التاريخي نفسه الذي اتّخذ قراراً بهدم جزء كبير منه، لإقامة قاعة فارهة للرقص، قيل إنّ تكلفتها قد تتجاوز ربع مليار دولار.
يستحقّ ترامب كلّ جوائز القرن. في التمثيل وفي الإخراج وفي الاستعراض
حين أقلعت طائرات الشبح العملاقة من أميركا لتضرب معاقل القنبلة الذرّيّة في قلب إيران، ظنّ العالم أنّها الهاوية. وأنّ ترامب سحلهم إليها. لكنّ ترامب كان له رأي مختلف: السلام بالقوّة والنار. إذا ضربت فأوجع. ويا مرحباً بعد السحسوح بكلّ طاولات التفاوض والتسويات والحوار.
يستحقّ جوائز القرن
ترامب صار شرطيّ الكوكب. الرجل الذي يقف عند إشارة السير، بل الذي يتحكّم بها، وكلّ العيون شاخصة إليه. فلاديمير بوتين أدرك عاجلاً أيّ قماشة من الرجال هو. أرسل له على وجه السرعة جداريّة عملاقة رسمها فنّان من طرازٍ استثنائيّ. في تفاصيلها يظهر وجه ترامب المدمّى، قبضته المرتفعة، شجاعته ورباطة جأشه، وخلفه علم الولايات المتّحدة. هذه هي صورة الرجل الخارج من كلّ الصناديق. الرجل الذي ظلّ ترامب يودّ أن يكونه أو يصيره.

لا كلمة تعلو فوق كلمته. إسرائيل المدلّلة تصير ممسحة إذا تداعت نحو رفض مشيئته. نتنياهو المتوحّش يصير حمامة ملويّة الجناح ومكسورة الخاطر. اليمين المتطرّف يغطّ على الفور في سباتٍ عميق. لا أحد يجرؤ. حتّى عتاولة العنصريّة والقتل يذوبون في مياه وجوههم كما تذوب حُبيبات الملح. لا شيء في جعابهم سوى الهرب أو الاعتراض المؤدّب والمدروس. أي تحت السقف الذي يسمح به دونالد ترامب.
يستحقّ ترامب جائزة القرن. يقول توماس فريدمان، أحد ألمع كُتّاب أميركا: ترامب يستحقّ نوبل للسلام والفيزياء والكيمياء إذا استطاع وقف الحرب في غزّة. وقد استطاع. ومن غيره أساساً كان يستطيع؟
يستحقّ ترامب كلّ جوائز القرن. في التمثيل وفي الإخراج وفي الاستعراض. في الحسم والحزم والحرب، كما في التسويات والصفقات والسلام. الرجل مجبول بطينة فريدة. فيها من السطحيّة ما ينبغي أن يكون، ومن التهوّر ما ينفع في لحظات الاحتباس أو الرتابة، ومن المبالغة ما يتجاوز المنطق وكلّ منطق، ومن الاستخفاف المستفزّ ما يُخرج الحليم من ثيابه، ومن العقل والبصيرة ما لا يستوي وذلك كلّه.
ترامب صار شرطيّ الكوكب. الرجل الذي يقف عند إشارة السير، بل الذي يتحكّم بها، وكلّ العيون شاخصة إليه
حادّ الذكاء ومتوقّد الذهن ومتشعّب الشخصيّة والقدرات. لكنّه فوق كلّ ذلك شرسٌ بالفطرة. المنطق عنده بلا أساسات أو قواعد أو أصول ناظمة. ظلّ يمدح إيلون ماسك ويصفّق له حتّى احمرّت يداه. ثمّ رفسه خارج المكتب البيضاويّ في لحظات. هذه مزاجيّة مفرطة. لكنّها المزاجيّة المطلوبة لتغيير رتابة الكوكب.
عالم بلا رأس
الأرض باتت ثقيلة على نحو لا يُطاق. أوروبا خاملة حدّ النوم. تحوّلت إلى متحف يكسوه الغبار على هامش التاريخ. شيخوخة وسكون لا يشبهان إلّا الموت. روسيا تدور حول ذاتها. أساطير فوق أساطير. كلّ ربع ساعة يأمر بوتين بتزييت القنابل الذرّية، فيما جيشه المترهّل بات يسبح في بحرٍ من الدم. الصّين مصابة بالتوحّد، منطوية على نفسها. الخارج بالنسبة لها هو المجهول وهو الضياع. “ماو” علّمهم أن يصنعوا بصمت، وصمتهم استحال صمت القبور.
دولة هامشيّة مثل إيران صارت تأمر وتنهى. يتفاخر حرسها الثوريّ البليد باحتلال أشهى عواصم وحواضر العرب. ليس على وجه البسيطة من يحمل عصاه أو يلوّح ببندقيّته. تضخّمت الرؤوس وتورّمت، وكان لا بدّ من زلزال اسمه دونالد ترامب.
من يضبط هذا العبث؟ من يُمسك “بي بي” من أذنيه؟ من يقول لخامنئي: أرادوا أن يقتلوك فمنعتهم احتراماً لشيخوختك؟ من يقول لـ”حماس”: هذه الحرب انتهت، وهذه خطّة نهايتها، ولا خيار أمامكم سوى التوقيع أو أبشع أشكال الجحيم؟
ترامب كان له رأي مختلف: السلام بالقوّة والنار. إذا ضربت فأوجع. ويا مرحباً بعد السحسوح بكلّ طاولات التفاوض والتسويات والحوار
قالوا عنه أرعن، مجنون، سوقيّ المسلك والتصرّف والتعابير. هذا صحيح في كلّ مقاييس العلم والتجارب والتشريح والمنطق. لكن من قال إنّ العالم لا يبحث عن شخص مماثل؟ من قال إنّ الأمور قد تستوي وفق تصوّرات ورديّة قد لا تصلح إلّا في المدن الفاضلة؟
إقرأ أيضاً: الطّوفان الذي غيّر وجه الشّرق
هذا العالم كان بلا رأس، بلا ضابط إيقاع، بلا مايسترو. تحوّل إلى ما يشبه الغابة المشرّعة الأبواب. لا كبير فيها، ولا كلمة فصل. الجميع توهّم أنّه الأسد. ثمّ حين وصل الملك انكفؤوا إلى جحورهم. لا نقاش هنا في الحقّ والباطل، بل توصيف لواقع كان قبل دونالد ترامب، وواقع صار بعده، في ظاهرة فريدة ستظلّ تُدرَس بكلّ حيثيّاتها لعقود طويلة.
لمتابعة الكاتب على X:
