الطّوفان الذي غيّر وجه الشّرق

مدة القراءة 6 د

عامان كاملان على الفجيعة. نذكر صبيحة ذلك اليوم. في السابع من أكتوبر. تواترت إلينا المقاطع المصوّرة. فلسطينيّو غزّة المحاصَرة اجتاحوا قرى الغلاف. وصلوا إلى العمق. قتلوا من قتلوا. أسروا من أسروا. وكأنّهم الزلزال الذي ضرب ضربته ثمّ استكان. القيادة العسكريّة غائبة عن السمع. القيادة السياسيّة ترقد في سبات عميق. إسرائيل برمّتها بدت لوهلة في مهبّ الريح. حدث مهول كنّا ندرك منذ اللحظة الأولى أنّه سيغيّر وجه غزّة ووجه فلسطين. لكنّنا لم نعرف أنّه سيغيّر وجه الشرق ووجه العالم.

 

 

هو الطوفان كما قال الشبح محمد الضيف. وعادة الطوفان أن يتفلّت من كلّ عقال. لا شيء يمنعه ولا شيء يصدّه ولا شيء يحتويه. أوّل ردود بنيامين نتنياهو كان استحضار الرواية التوراتيّة عن عماليق. وعماليق هذه هي الخطر الوحيد الذي يستوجب الاجتثاث بحسب الشريعة اليهوديّة. فلا حرمة وقتذاك لا لطفل ولا لشيخ ولا لشجرة ولا لأيّ حيّ يدبّ فوق الأرض. الموت والموت فقط. وهذا ما تبرَع به إسرائيل كما لم تبرَع يوماً في سواه. أكانت في مواجهة عماليق. أو في مواجهة الملائكة. القتل في قاموسها سيّان.

أصيبت دولة بن غوريون في نخاع شوكها. جرؤت على جبروتها مجموعة من حفاة الأقدام. أولئك الذين توارثوا الموت كابراً عن كابر. وتوارثوا الشجاعة والإقدام. واختبروا ما لم يختبره أحدٌ على وجه الأرض. من الظلم المستدام. إلى الشقاء الذي لا ينضب.

أصيبت دولة بن غوريون في نخاع شوكها. جرؤت على جبروتها مجموعة من حفاة الأقدام. أولئك الذين توارثوا الموت كابراً عن كابر

تكون بعدها أو لا تكون

لم يكن أمام إسرائيل خيارٌ إلّا الهيجان. حالها حال الوحش الجريح. سارعت بريطانيا يومذاك إلى التقاط الأصابع قبل الضغط على أزرار القنبلة النوويّة. صارت الدولة برمّتها بلا عقل. اقترح وزير المالية في حكومة الحرب أن تُضرب غزّة بالذرّة الانشطاريّة. على غرار قنبلة “الرجل السمين” التي حوّلت مدينة بحجم هيروشيما إلى مجرّد غبار.

بدأت مرحلة قضم الأصابع. شدّ الحبال. كسر التوازنات التي تعايشت معها المنطقة على مدى عقود. كلّ شيء بات على طاولة البحث. تسوية غزّة بالأرض. احتلال الضفّة. كسر “الحزب” في لبنان. ضرب الحوثيّ في اليمن. ترويع الفصائل في العراق. وسحق الأخطبوط في طهران. جبهات متعدّدة اشتعلت في سياق واحد. في لحظة واحدة. بدا الكباش في أشدّه. البوارج والفرقاطات زحفت نحو المتوسّط من كلّ حدب وصوب. الغوّاصات النوويّة تحرّكت من مرابضها. العالم برمّته يحبس الأنفاس بانتظار لحظة الانفجار الكبير.

كانت إسرائيل في أضعف لحظاتها على الإطلاق. فيما بدت إيران وكأنّ يدها هي الطولى في معادلة الصراع المفتوح مع الأذرع. ظهر وزير خارجيّتها حسين أمير عبداللهيان في حوار تلفزيونيّ تاريخيّ. قبل مقتله بأسابيع. أطلّ بكلّ هدوئه ودهائه ورباطة جأشه. يضع قدماً فوق أخرى. ويسند ظهره بأريحيّة منقطعة النظير. كلامه ولغة جسده تشيان بأنّه المنتصر. وقد قال بالحرف: إنّ النصر حليفنا في هذه المعركة مهما طال المطاف.

انكسرت معادلة التوازن. انهارت معادلات الردع. باتت إسرائيل أمام حرب وجوديّة. تكون فيها أو لا تكون. ما قبل السابع من أكتوبر لن يكون كما بعده. إمّا الانتصار الكامل. وإمّا جحيم بلا قرار.

هذه معركة بلا سقف. كلّ ما نعرفه عن إسرائيل منذ قيامها بات في سلّة المهملات. كلّ السرديّة الأمنيّة والعسكريّة والدفاعيّة والهجوميّة. كلّ الخلاصات التي انتهت إليها الحروب. كلّ الدروس التي انتهت إليها التجارب. كلّ شيء صار لصيق الأرض. لأنّ الكيان برمّته بات على المحكّ. ولا خيار سوى الحرب المفتوحة. بلا سقف وبلا ضوابط وبلا محرّمات.

أخطأت “حماس” في تقدير الموقف. أخطأت خلفها إيران في تقدير الكارثة وتبعاتها. أخطأ “الحزب” في استيعاب اللحظة بصورتها الأشمل. بنى الجميع تصوّراته على إسرائيل التي يعرفونها. فيما إسرائيل سلكت مسلكاً مغايراً. يقول بنيامين نتنياهو للحاخام الأكبر: استخدمنا المكر والخداع لهزيمة أعدائنا. إسرائيل التي قالوا إنّها أوهن من خيوط العنكبوت. بدت وكأنّها خيوط من فولاذ.

لم يكن أمام إسرائيل خيارٌ إلّا الهيجان. حالها حال الوحش الجريح. سارعت بريطانيا يومذاك إلى التقاط الأصابع قبل الضغط على أزرار القنبلة النوويّة

شعر “بي بي” بنشوة عارمة. قتل الرجل الأوّل في المحور. بل محور المحور. الصخرة التي على أساسها يقوم كلّ شيء. ما كانت إيران تظنّ أنّه قادر. ما كان السيّد يظنّ أنّ إسرائيل قد تفعلها. الجميع كان ينام على الحرير. وقد ساهمت إسرائيل في تعميق هذا الشعور بالطمأنينة. حيث أوهمت الجميع أنّها كالحصان الأعرج في سباق لا يرحم.

مجدٌ من رماد

كان المبعوث الأميركي آموس هوكستين قد أكمل زيارته العاشرة للبنان. كاد أن يُقبّل يد “الحزب” لإيقاف جبهة الجنوب. ظنّ “الحزب” أنّ الجبهة موجعة وأنّ إسرائيل مربكة وأنّ خياراتها معدومة. ظنّت إيران أنّ إمبراطوريّة فارس ستحكم الشرق من شواطئ الهند إلى سواحل المغرب. مَن كان يُصدّق أنّ الموساد وضع قنبلة جاهزة للتفجير في جيب نخبة نخبتها؟ كبار قادة أذرعها؟ سفيرها المتّكئ على ضفّة المتوسّط؟

انفجرت القنابل في جيوب أصحابها. هوى القائد تلو القائد. ارتعدت الأرض بما يقارب مئة طن من المتفجّرات. قُتل السيّد. لحقه سيّد آخر. انقلبت المعادلة رأساً فوق عقب. كبير الرجال في طهران ظهر مفطور القلب ومكسور الخاطر. قال إنّ السيّد الذي هوى هو جبل من جبالنا. لكنّنا لن نخضع ولن ننكسر. ما هي إلّا أيّام حتّى هرب بشّار. قتلوا محمد الضيف. قتلوا يحيى السنوار. استسلم “الحزب” ورضخ وانكفأ. انتقلت النار سريعاً إلى طهران. عشراتٌ من كبار القادة صاروا أثراً بعد عين. طائرات الشبح أقلعت بالقنابل الخارقة من الولايات المتّحدة إلى فوردو ونطنز وأصفهان. انتهى الحلم النوويّ في لحظات. صارت الإمبراطوريّة مجداً من رماد.

في السابع من أكتوبر أراد يحيى السنوار أن يقلب الطاولة بوجه الاتّفاق الإبراهيميّ، وربّما بوجه محمود عبّاس. لا أحد في العالم يستطيع أن يعرف مقدار تقدير الرجل لحجم الفعل وتداعياته. لكنّ الأكيد أنّ كلّ حساباته لم تكن بمستوى ما صارت إليه الأمور. كان “الطوفان” بمنزلة أثر الفراشة الذي بدأ من غزّة المحاصَرة ثمّ استحال عاصفة عصفت ولا تزال بالمنطقة والعالم.

إقرأ أيضاً: تحوُّل في المزاج الأميركيّ: لا دعم غير مشروط لإسرائيل

بحلول الذكرى الثانية لهذه الحرب. وبالتزامن الدراميّ مع توقيع خطّة ترامب لإطفائها في تاريخ اشتعالها. الواضح أنّ غزّة تدمّرت عن بكرة أبيها. وأنّ الطوفان جرف معه كلّ شيء. تداعياته الجانبيّة كانت أعظم إنجازاته على الإطلاق. من بيروت إلى صنعاء. مروراً بدمشق وبغداد وطهران. سقطت شمّاعة فلسطين من يد سارقيها. واستعاد العرب زمام المبادرة وجوهر القضيّة. أمّا إسرائيل المتوحّشة. فهي ستزداد وحشيّةً وصلفاً وعربدة. والطريق معها شاقّ وطويل وصعب للغاية. لكنّ الضوء أخذ يتسرّب من آخر هذا النفق. وكلّ ليل مهما استطال يعقبه الصباح.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@kassimyousef

مواضيع ذات صلة

الآليّة عقدة الطّربوش في التّفاوض مع إسرائيل

ما خلا “الحزب”، لا أحد من الأفرقاء اللبنانيّين يمانع التفاوض مع إسرائيل، انسجاماً مع المبرّر الذي ساقه رئيس الجمهوريّة جوزف عون من أن لا خيار…

من وطن الرّسالة إلى الدّولة الفاشلة: كيف انهار النموذج اللّبنانيّ؟

كيف سقط لبنان من قمّة النموذج إلى قاع الفشل؟ هل كان محكوماً حتماً بهذا المصير؟ كيف انقلب وطن الرسالة إلى دولة التخبّط والعجز؟   واصل…

لبنان مُعضلة الشّرق: هل تهبّ عاصفة ترامب؟

يجد لبنان نفسه بعد اتّفاق غزّة أمام تحدّيات جمّة تتمثّل بشكل رئيس في السباق بين الجهود الدبلوماسيّة والتصعيد العسكريّ على نطاق أوسع، وسط مؤشّرات متزايدة…

خديعة الحكم الشّيعيّ في العراق

عند كلّ انتخابات تشريعيّة جديدة في العراق، ترتفع أصوات مرشّحي الأحزاب الشيعيّة بخطاب طائفيّ تتوزّع مفرداته بين التخويف من عودة البعثيّين إلى الحكم، وبين التحذير…