على أبواب الشتاء، غادرنا آخر شعراء الزجل الكبار، طليع حمدان. برحيله تُطوى صفحة ناصعة من تاريخ لبنان والزجل والربيع.
لن تشخص عيون اللبنانيّين نحو الشاشات الصغيرة، أو تسترق آذانهم السمع إلى آلة تسجيل، ليستمتعوا بالزجل اللبناني، سوف تشخص عيونهم إلى السماء، وآذانهم كذلك، فالجوقة التي كانت هنا، صارت هناك، في السماء، ووراء الحياة والموت.
وصل ليلاً الشاعر الزجليّ اللبنانيّ طليع حمدان، “أبو شادي”، إلى ما وراء الضباب. في انتظاره كان زين شعيب رفيق الدرب والمنبر والليل والشعر والكلمات، الزغلول، جوزف الهاشم وزغلول الدامور، بل زغلول لبنان والزجل. في انتظاره أيضاً كان كثيرون: خليل روكز، شحرور الوادي، علي الحاج وخليل شحرور، واللائحة تطول.
لا يُذكر الزجل اللبنانيّ دون الوقوف طويلاً عند اسم طليع حمدان، وعند اسم زين شعيب، “أبي علي”، والزغلول: تذكرهما فيحضر أبو شادي، وتذكر الأخير فيحضر الأخيران، وتدور الكلمات على آذان اللبنانيّين وعقولهم. لقد مات طليع حمدان على مراحل: فقد بعضاً من حاله عندما غادرنا وغادره زين شعيب. ثمّ فقد البعض الآخر عندما مات زغلول الدامور.
على أبواب الشتاء، غادرنا آخر شعراء الزجل الكبار، طليع حمدان. برحيله تُطوى صفحة ناصعة من تاريخ لبنان والزجل والربيع
الجوقة فوق ولبنان تحت
اليوم تكتمل الجوقة فوق، في السماء، وتزداد الأوجاع والآلام والمآسي تحت، في لبنان. وكأنّ ما نحن فيه من يأس وإحباط، ومن خوف وقلق وترقّب، لا يكفي. سُئل عمّا هو أشدّ وأدهى، فقال: عندما راح الكبار، أعمدة الوطن الصغير، لبنان الحقيقي. خطفهم الموت ليتركنا نحن اللبنانيّين في وحشة المقابر والأخطار.
صحيح أنّنا “من خطرٍ نمضي إلى خطرٍ… ما همّ نحن وُلدنا بيتنا الخطر”، كما يقول سعيد عقل، لكنّها أخطار كنّا ندفعها بقامات سامقة، وكلمات تهتزّ لها الأفئدة، فنشعر بأمان ما.
أمّا اليوم فقد رحلوا جميعهم. لا كلمات بعد اليوم تخرج من عقولنا وقلوبنا وتجري على ألسنتنا، تتلقّفها جوقة فتمسّها وتعود إلينا أحلى وأجمل، وتهدّئ من روعنا وقلقنا وتأخذنا ممّا نحن فيه.

كان طليع حمدان يصف لبنان، فيصير وطن الأرز هو الأجمل. يخوض في آلامنا فتصير أخفّ وطأةً ووجعاً. يبشّرنا بمستقبل يشبهه، فتهجر ديارنا الأخطار القائمة.
اللبنانيّون، بغالبيّتهم الغالبة، وُلدوا وطليع حمدان على منبره يشدو. من منهم لا يعرفه؟ من منهم لم يستمع إليه؟ ومن منهم لم يستخدم عباراته وأبياته وقوافيه في حديثه؟ من منهم عشق وأحبّ ووصف وتغزّل بعيداً عن طليع حمدان وغزليّاته و”قافه” المحبّبة والشهيرة؟ مَن مِن اللبنانيّين لم يستمتع بربيع طليع حمدان ونسمات قصائده وورودها وأزهارها؟ من منهم لم يرتع في رحاب منبره، طائراً بجناح “ردّية”، أو محلّقاً بأبيات معنّاه؟
كنّا نعرف أنّه كبر وهرم وصار على وشك أن يغادرنا. على الرغم من ذلك، كنّا نتجاهل الأمر. نحاول أن ننسى أنّ بقيّة زين شعيب والزغلول وخليل شحرور وأسعد سعيد وجرجس البستاني وكثر غيرهم ستفارقنا.
حكاية لا تنتهي
عن 81 عاماً، وآلاف الأبيات والحفلات، غادرنا آخر شعراء الزجل الكبار، “شاعر المنبرين”. وُلد طليع حمدان عام 1944، في بلدة عين عنوب في قضاء عاليه، في أسرة كبيرة مكوّنة من 11 شقيقاً وشقيقة، وأب مزارع وأمّ هي ربّة منزل.
لا يُذكر الزجل اللبنانيّ دون الوقوف طويلاً عند اسم طليع حمدان
على مقاعد “الابتدائيّة” في مدرسة عين عنوب، تفتّح وعي طليع حمدان، وجذبه الشعر منذ القافية الأولى والوردة الأولى والنسمة الأولى. جذبه شحرور الوادي منذ صغره، فراح يتابعه من منبر إلى منبر، ومن أمسية إلى أمسية.
منتصف الستّينيّات، انضمّ إلى جوقة الشاعر زغلول الدامور وزين شعيب وإدوار حرب، ولم تنتهِ الحكاية إلى اليوم. عام 1976، أسّس “جوقة الربيع”، وضمّت خليل شحرور، أنطوان سعادة ونزيه صعب.
عروة وثقى
خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة بين عامَي 1975 و1990، كان طليع حمدان ورفاقه الشعراء بارقة أمل للّبنانيّين، إذ جابوا العالم حاملين لبنان وطناً وشعباً وقضيّةً وأفكاراً وأوجاعاً وأخطاراً وعبارات وأمثالاً وطرائق عيش وتفكير، إلى الدنيا. تبارزوا في أميركا وأستراليا والبرازيل وكندا والكويت وقطر ودبي، “لامّين” شمل اللبنانيّين، فكانوا بحقّ عروةً وثقى.
فور انتهاء الحرب، أطلّ طليع حمدان والزغلول وزين على اللبنانيّين، عبر أكثر من شاشة وفي أمسيات وحفلات كثيرة. كانت إطلالاتهم تقول إنّ لبنان، لبنانهم، عاد. كانت رؤيتهم دليل تعافٍ ومبعث أمل، وأمّا قوافيهم ومبارزاتهم فلطالما قالت إنّ اللبنانيّين يستطيعون أن يختلفوا ما شاؤوا، دون أن يتقاتلوا برصاص مستعار.
لطليع حمدان دواوين كثيرة، وقصائد أكثر. أبرز مؤلّفاته: “براعم الورد” و”جداول عطر” و”ليل وقمر” و”انطريني أنا جايي” و”افتتاحيّات طليع حمدان”.
برحيل حمدان ينقص ربيع لبنان بستان ورود، وجباله تنقص قمّةً، وينضب ماؤه وتضيق أرضه
حظي بالكثير من التكريمات، آخرها قبل سنتين، حين زاره وزير الثقافة حينها في منزله في عين عنوب.
لكنّ طليع حمدان لا يحتاج إلى تكريم أو أوسمة، فقد كرّم نفسه بنفسه، إذ صار فرداً من كلّ عائلة لبنانيّة، يدخل البيوت بلا استئذان، ويسامر أصحابها وسكّانها وينادمهم ويرافقهم بقوافيه ويحتفل معهم في السرّاء ويخفّف عنهم في الضرّاء.
وطن سماويّ
برحيل حمدان ينقص ربيع لبنان بستان ورود، وجباله تنقص قمّةً، وينضب ماؤه وتضيق أرضه. ينقص لبنان، إذ صار هناك، في السماء، ولم يبقَ على الأرض منه إلّا القليل القليل.
إقرأ أيضاً: إبراهيم نصرالله الفلسطيني يخطف “نوبل الأميركيّة” الأدبيّة
صرنا وطناً أعمدته في السماء بينما جسده يتلاشى في الأرض. لم يبقَ أمامنا سوى أن ننتظر “قافاً” تسقط من علٍ، وضرباً على الدفّ، أو “ردّيّةً” تعيد إلينا من رحلوا.
لمتابعة الكاتب على X:
