فرضيّات مستحيلة لإعادة الإعمار

مدة القراءة 5 د

ليس معروفاً حتّى الآن هل الأضرار التي لحقت بلبنان نتيجة العدوان الإسرائيليّ هي الحصيلة النهائيّة لحرب إسرائيل عليه، أم تتجدّد هذه الحرب ويكون مزيدٌ من الضحايا والدمار. إذ تتوالى التحذيرات منبِّهةً لبنان إلى أنّ إسرائيل ستستأنف عدوانها عليه، وأنّ الفصول المقبلة من الحرب ستكون أشدَّ فتكاً ودمويّةً من الفصول السابقة ما لم يُسلِّم “الحزب” سلاحه إلى الدولة، كما قال مبعوث الرئيس الأميركي توم بارّاك.

 

 

هكذا قبل أن تنجلي الصورة النهائيّة للدمار، قذف “الحزب” وحلفاؤه ملفَّ إعادة الإعمار في وجه الدولة، وحمّلوها مسؤوليّة التأخير في إنجاز هذه المهمّة لكي تتمكّن العائلات المنكوبة في الجنوب والضاحية الجنوبية، على وجه الخصوص، من العودة إلى بيوتها والعيش فيها بسلام. على كلّ حال، أيّاً كان المتسبّب باندلاع الحرب، تبقى الدولة مسؤولةً عن سلامة مواطنيها، وعن حفظ كرامتهم وإيوائهم في منازلهم.

لا تقرير رسميّاً من الحكومة

لكنّ التساؤل عن البطء في المباشرة بالإعمار يستحقّ النقاش، لأن تحليلاً سريعاً للأرقام يُبيّن استحالة تمويل الإعمار بإمكانات الدولة الذاتيّة، وأنّ الحصول على المساعدات العربيّة والدوليّة للتمويل يتطلّب سياساتٍ جديدةً من “الحزب” وحلفائه.

إنّ البطء في إيواء المهجّرين والمشرّدين موضوعٌ وطنيٌّ كبير، يُسأل عنه “الحزب” وحلفاؤه قبل أن تُسأل عنه الدولة.

هكذا قبل أن تنجلي الصورة النهائيّة للدمار، قذف “الحزب” وحلفاؤه ملفَّ إعادة الإعمار في وجه الدولة، وحمّلوها مسؤوليّة التأخير في إنجاز هذه المهمّة

خلافاً لما جرى بعد عدوان سنة 2006، لم تُصدر الحكومة حتّى الآن تقريراً رسميّاً متكاملاً عن حجم أضرار العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان وكلفة تعويض هذه الأضرار. إنّ التقرير الرسميّ عن أضرار حرب 2006 تضمّن وقتها كلفة الأضرار التي لحقت بمنازل المواطنين وممتلكاتهم الأخرى، وخسائر المنشآت الرسميّة والمرافق والخدمات العامّة والبنية التحتيّة بشكلٍ عامّ. وقد أُعِدّ هذا التقرير بكثيرٍ من العناية لأنّ الدولة كانت تتوخّى تقديمه إلى مؤتمر باريس 3، والحصول على مساعداتٍ لتعويض أضرار العدوان الإسرائيلي ودعم الإصلاحات وتعزيز الماليّة العامّة المتهافتة.

بدلاً من التقديرات الرسميّة لكلفة الحرب، يجري الاعتماد الآن على أرقام البنك الدوليّ الذي قدّر كلفة إعادة الإعمار بمبلغ 11 مليار دولار، وهو مبلغٌ لا يغطّي ترميم المنازل والأملاك الخاصّة فقط، بل يشمل أيضاً شبكات الخدمات العامّة التي تعطّلت قدرتها التشغيليّة.

يلفت البنك الدولي إلى الاستثمارات الإضافيّة التي يحتاج إليها الاقتصاد الوطنيّ في السنوات الخمس المقبلة لتحسين الخدمات العامّة، خصوصاً قطاعات الطاقة، والنفايات الصلبة، والمياه، فترتفع حاجات التمويل خلال هذه الفترة إلى 20 مليار دولار.

استناداً إلى هذه المعطيات، يمكن افتراض ثلاثة سيناريوهاتٍ لتمويل إعادة الإعمار تبدو كلّها مستحيلة. السيناريو الأوّل هو الاعتماد الكامل على مساهمة الدولة، أي تمويل الإعمار من خلال الموازنة العامّة. فإذا اعتبرنا أنّ كلفة إعادة الإعمار بمعناها الضيّق هي عشرة مليارات دولار، يتّضح أنّ هذه الكلفة لا يمكن توفيرها من موازنة الدولة، وأن لا بديل عن اللجوء إلى المصادر الخارجيّة.

البطء في إيواء المهجّرين والمشرّدين موضوعٌ وطنيٌّ كبير، يُسأل عنه “الحزب” وحلفاؤه قبل أن تُسأل عنه الدولة

حصر السّلاح أولويّة مطلقة

إنّ نفقات الدولة الإجماليّة لسنة 2026 تبلغ 5 مليارات دولار، وتحميل كلفة إعادة الإعمار للموازنة يعني، مجازاً، تخلّي الدولة لمدّة سنتين كاملتين عن تحمّل أيِّ نفقاتٍ أخرى، أي التوقّف عن دفع رواتب الموظّفين وخدمة الدين العامّ ونفقات الاستثمار وسواها كلّياً لمدّة سنتين كاملتين تُخصَّص كلّ الموارد العامّة خلالهما لإعادة الإعمار فقط، وهذا أمرٌ مستحيل.

الفرضية الثانية هي تخصيص كلّ اعتمادات الاستثمار في الموازنة لإعادة الإعمار فقط. ولمّا كانت نفقات الاستثمار تبلغ حوالي 10% من نفقات موازنة العام المقبل، أي ما يقارب 500 مليون دولار، فإنّ فرضية تخصيص الإنفاق الاستثماريّ بكامله لإعادة إعمار المناطق التي استهدفها العدوان الإسرائيلي تعني تجميد كلّ الاستثمارات العامّة لمدّة 20 سنة، حتّى تُخصَّص اعتمادات الاستثمار بكاملها لإعادة الإعمار. وهذه بدورها فرضيّةٌ مستحيلة.

إقرأ أيضاً: لبنان وإسرائيل: سلامٌ بالقوّة؟

أمّا الفرضيّة الثالثة غير الممكنة فهي انسحاب الدولة كلّياً من التمويل والاعتماد على القطاع الخاصّ، أي على أصحاب الأملاك المتضرّرة ومساعدات ذويهم غير المقيمين. والعقبات التي تحول دون هذا الخيار هي بالدرجة الأولى انعدام التمويل المصرفيّ في ظلّ الأزمة الماليّة الراهنة، وبالدرجة الثانية انعدام ثقة غير المقيمين بالنظام المصرفيّ اللبنانيّ نتيجة الأزمة نفسها.

خلاصة القول أنّ الطريق الوحيد لإعمار ما دمّرته الحرب الإسرائيلية في الجنوب والضاحية والبقاع هو فتح الباب أمام المساعدات والقروض من المؤسّسات والحكومات العربية والأجنبية. لكنّ هذه الجهات تشترط للمساعدة حصريّةَ السلاح بيد الدولة وتحقيق الإصلاح.

الجواب بيد “الحزب” وحلفائه.

مواضيع ذات صلة

الشرع- ترامب: ماذا دار في “الاجتماع السّرّيّ”؟

استغرقت رحلة الرئيس السوريّ أحمد الشرع أحد عشر شهراً من إدلب إلى واشنطن. من يستمع إلى كلمات الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، منذ لقائهما الأوّل في…

لبنان يدور على ذاته… وسوريا في البيت الأبيض!

يُفترض أن يميّز الوضوح الخطاب السياسيّ اللبنانيّ في وقت تزداد الضغوط الأميركيّة، ذات الطابع الماليّ والاقتصاديّ، على البلد من جهة، والضغوط العسكريّة الإسرائيليّة من جهة…

نتنياهو يُعمّم الفوضى… ليستمرّ

منذ تشكيله ائتلافه اليمينيّ المتطرّف في كانون الأوّل 2022، يجد رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو نفسه أمام أزمات تتراكم ولا تنتهي، من فضائح فساد شخصيّة،…

فيدان في واشنطن: بداية مثلّث إقليميّ؟

لن يكون التصعيد التركيّ – الإسرائيليّ حدثاً طارئاً أو عمليّة كرٍّ وفرٍّ في مواجهتهما على أكثر من جبهة وحسب، بل حلقة جديدة في مسار صراع…