رفض الفلسطينيّون بشدّة، ومعهم العرب، القرار رقم 181 الصادر عن الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة عام 1947، والذي أوصى بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربيّة ويهوديّة. بعد 78 عاماً، بات “حلّ الدولتين” هو المخرج السياسيّ الوحيد، مع شبه إجماع عالميّ على أنّ إقامة دولة فلسطينيّة على الأراضي المحتلّة منذ عام 1967 لم تعُد تتوافق مع الوقائع الإسرائيليّة المفروضة. بات هذا الحلّ أكثر صعوبة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، حتّى لو كانت الدولة الفلسطينيّة المقترحة منزوعة السلاح وناقصة السيادة.
تُطرح فكرة الدولة على أيّ جزء من فلسطين أو يتجدّد ذكرها عقب كلّ هزيمة أو أزمة. جرى ذلك بنبرة أضعف بعد نكبة 1948، وظهرت دعوات بشأنها عقب نكسة 1967، ثمّ إثر خروج منظّمة التحرير من بيروت عام 1982، وأثناء الانتفاضة الأولى (1987-1993). كان مفترضاً باتّفاقات أوسلو عامَي 1993 و1995 أن تؤدّي إلى قيام دولة فلسطينيّة بعد طول انتظار، حتّى لو كانت غير قابلة للحياة.
عادت الفكرة للبروز بقوّة بعد “طوفان الأقصى” 2023، وفي واقع متناقض تماماً، بعدما دمّرت إسرائيل قطاع غزّة، وسط إبادة منقطعة النظير في القرن الحالي، وضيّقت إلى حدّ كبير على السلطة الفلسطينيّة في الضفّة الغربية، مع دعوات اليمين المتطرّف إلى تهجير كلّ الفلسطينيّين. إلّا أنّ فكرة إقامة الدولة لم تكن دائماً تعني الاعتراف بإسرائيل أو التخلّي عن أراضي 48 أو حتّى عن حقّ العودة.
يُنبئ “حلّ الدولتين” بحلّ تسوويّ نهائيّ ووقف النزاع العسكريّ على الحقوق بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين، ويفترض التفاوض الصعب على كلّ شيء والبحث في كلّ تفصيل، فيما كان طرح الدولة الفلسطينيّة أحياناً كثيرة لا يعني سوى الاجتماع في بقعة محدّدة للحفاظ على الهويّة الفلسطينيّة واستكمال التحرير لاحقاً.
رفض الفلسطينيّون بشدّة، ومعهم العرب، القرار رقم 181 الصادر عن الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة عام 1947، والذي أوصى بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربيّة ويهوديّة
هل أخطأ العرب؟
عقب هزيمة حزيران 1967، اقترح الصحافي المصريّ أحمد بهاء الدين (توفّي عام 1996)، في مقال له في مجلّة “المصوّر”، تأسيس دولة فلسطينيّة أوّليّة تضمّ الضفّتين الغربيّة والشرقيّة من نهر الأردن، إضافة إلى قطاع غزّة، مع ما يعني ذلك من دمج الأردنيّين والفلسطينيّين تحت اسم “فلسطين”، من أجل أن تصبح هذه الدولة نقطة تجمّع للفلسطينيّين العائدين، ومنصّة مقاومة من داخل فلسطين التاريخيّة، لا من خارجها. استدعى هذا الاقتراح في ذلك الوقت ردوداً ونقاشاتٍ بين مؤيّد ومعارض.
لكنّ اللافت من بينها تعليق الكاتب الفلسطيني غسّان كنفاني (اغتالته إسرائيل في بيروت عام 1972)، حين قال إنّ أيّ عربي لم يكن يخطر بباله أنّه لو أُعلنت حكومة فلسطينيّة في الليلة نفسها التي أُعلنت فيها الحكومة الإسرائيلية الأولى، أي في 15 أيّار 1948، لتغيّر كثيراً ممّا حدث في العشرين سنة اللاحقة. تساءل: هل يمكن تصحيح هذا الخطأ بعد عشرين سنة، وبعد كارثة أكثر مرارة من كارثة 1948؟
لم يقبل العرب عموماً بهذا القرار المجحف، بالنظر إلى التفوّق الديمغرافيّ الفلسطينيّ آنذاك على عدد المستوطنين: 67% من العرب، 33% من اليهود، مع 42.3% من فلسطين للعرب مقابل 57.7% لليهود، بحسب قرار الأمم المتّحدة، ولو على أساس براغماتيّ.
إلى ذلك، يُضاف عنصر آخر، بحسب الباحث الفلسطينيّ يزيد الصايغ، إلى ما يمكن اعتباره الافتقار إلى تفكير عمليّ وفق مبدأ “خذ وطالب”، وهو عدم اكتمال الشعور بالهويّة الفلسطينيّة في تلك المرحلة حين كان سياسيون فلسطينيّون يشعرون بأنّ فلسطين امتداد طبيعيّ لسوريا أو بلاد الشام التي كانت تضمّ تاريخيّاً فلسطين ولبنان والأردن.
في حين أنّ أكبر السياسيّين سنّاً، وهو موسى كاظم الحسيني (توفّي عام 1934)، كان يرحّب بالاتّحاد مع محافظات عربيّة أخرى من الدولة العثمانيّة السابقة تحت قيادة الشريف حسين (توفّي عام 1931) من الحجاز، كان راغب النشاشيبي (توفّي عام 1951) يفضّل الاتّحاد مع شرق الأردن (كتابه: الصراع المسلّح والبحث عن دولة).
خيارات الدّولة الفلسطينيّة
كان الأردن قد سيطر على الضفّة الغربيّة خلال حرب 1948، وأصبحت القدس الشرقيّة تحت رعايته، فيما خضع قطاع غزّة لإدارة مصريّة، وتأسّست فيه “حكومة عموم فلسطين”، بقرار من الجامعة العربية، ولم يعترف بها الأردن.
بين عامَي 1967 و1993، تداول الإسرائيليون خيارين أساسيَّين في كيفيّة تعاطيهم مع مصير الضفّة الغربيّة في تلك المرحلة. اقترح حزب الليكود إخضاعها للسيادة الإسرائيليّة، مع منح الفلسطينيّين مستوى من الحكم الذاتيّ. أمّا حزب العمل فعرض تقسيم الضفّة الغربية إلى ثلاثة أجزاء: المنطقة الوسطى، حيث يعيش معظم الفلسطينيّين، وتُعاد إلى الأردن، فيما تسيطر إسرائيل على مساحات معيّنة في الشرق والغرب.
في كلا الخيارين كانت فكرة دولة فلسطينيّة مستقلّة مرفوضة تماماً. في عام 1987، اقترح وزير الخارجيّة الإسرائيليّ شيمون بيريز (توفّي عام 2016) على الأردن خياراً ثالثاً، وهو جعل معظم الضفّة الغربيّة جزءاً من اتّحاد فدراليّ أو كونفدراليّ مع الأردن، بحسب صلاحيّات الحكومة الاتّحادية ومدى سلطات المكوّنات المحلّية.
لم يقبل العرب عموماً بهذا القرار المجحف، بالنظر إلى التفوّق الديمغرافيّ الفلسطينيّ آنذاك على عدد المستوطنين: 67% من العرب، 33% من اليهود، مع 42.3% من فلسطين للعرب مقابل 57.7% لليهود
وفقاً لهذا الاقتراح، تتنازل إسرائيل عن كامل الضفّة تقريباً، ويكون الفلسطينيون أحراراً من الاحتلال الإسرائيليّ، ويتمتّعون باستقلال محدود، ويُسمح فقط للأردن بنشر قوّات مسلّحة في هذه المنطقة. لكنّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ آنذاك إسحاق شامير (توفّي عام 2012) رفض الفكرة.
عام 1988، وإثر الانتفاضة الفلسطينيّة في الأراضي المحتلّة عام 1987 انطلاقاً من مخيّم جباليا في غزّة، أعلن الملك حسين (توفّي عام 1999) فكّ الارتباط مع الضفّة الغربية، باستثناء السيطرة الأردنيّة على المقدّسات الإسلاميّة والمسيحيّة في القدس، مع الاعتراف بمنظّمة التحرير الفلسطينيّة ممثّلاً شرعيّاً ووحيداً للشعب الفلسطينيّ. هكذا أصبحت فكرة الدولة الفلسطينيّة هي الحلّ الوحيد المقبول.
تحرير كلّ فلسطين
أمّا الموقف المبدئيّ لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة فظلّ متمسّكاً بتحرير كلّ فلسطين، وفق النقاط العشر التي أعلنها المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ عام 1974، رافضاً التعامل مع القرار الدولي رقم 242 الصادر عام 1967، الذي يدعو إلى انسحاب إسرائيل من “أراضٍ احتلّتها” بحسب النصّ الإنكليزي، أي الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، علاوة على الجولان وسيناء. وأعلنت اعتماد الكفاح المسلّح لتحرير كلّ فلسطين وإقامة دولة على أيّ جزء محرَّر منها.
إقرأ أيضاً: من يحاسب المسؤولين عن مقتلة غزّة؟
الأهمّ من ذلك رفض أيّ كيان فلسطينيّ مقابل الاعتراف بإسرائيل والصلح معها والحدود الآمنة وحرمان الشعب من حقّ العودة. لكن بعدما نصّت اتّفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978على إقامة حكم ذاتيّ للفلسطينيّين لخمس سنوات، وتأسيس سلطة منتخبة تدير الضفّة والقطاع، وتأجيل المسائل الأساسيّة كوضع القدس والحدود النهائيّة واللاجئين والمستوطنات. وبعد اضطرار منظّمة التحرير إلى الخروج من لبنان عام 1982، ثمّ نشوب الانتفاضة الأولى عام 1987، أعلن المجلس الوطني الفلسطينيّ في الدورة الـ19 في الجزائر قيام دولة فلسطين، معتبراً أنّ قرار تقسيم فلسطين ما يزال يوفّر شروطاً للشرعيّة الدوليّة تضمن حقّ الشعب العربي الفلسطينيّ في السيادة والاستقلال الوطنيّ. ولم يُذكر القراران 242 أو 338 إلّا في البيان السياسيّ، كقاعدة لعقد مؤتمر دوليّ، وكان هذا أوّل تنازل فلسطينيّ منذ النكبة.
أمّا في اتّفاق أوسلو الثاني عام 1995، فقد قُسّمت الضفّة الغربية إلى مناطق A و BوC، بحيث تقع المنطقة A ضمن السيطرة المدنيّة والأمنيّة الفلسطينيّة، وتخضع المنطقة B للسيطرة المدنيّة الفلسطينيّة مع السيطرة الأمنيّة الإسرائيليّة، وتقع المنطقةC ضمن السيطرة الإسرائيليّة الكاملة. أُعطيت السلطة الفلسطينية بعض الصلاحيّات، ولم توضع مهل زمنيّة للوضع النهائيّ، وهو ما يؤدّي نظريّاً إلى دولة مفكّكة من دون سيادة من أيّ نوع. وكان الانسحاب الإسرائيليّ من غزّة عام 2005 لتقويض فكرة الدولة الفلسطينيّة لا تعزيز احتمالات نشوئها، ورأى نتنياهو ورفاقه المتطرّفون أخيراً أنّ الوقت حان لإجهاض الفكرة تماماً بعد 7 أكتوبر 2023.
لمتابعة الكاتب على X:
