جاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المنطقة مزهوّاً بقوّته، معتزّاً بقدرته على إعطاء الأوامر لقادتها بمن فيهم قادة إسرائيل. لكنّ هذا الانتصار الذي ينسبه لنفسه، يعود إلى طبيعة الصراع الدولي التي سهّلت إعلان وقف الحرب.
من حقّ الرئيس ترامب أن يشعر بالفخر لأنّه نجح حيث أخفق الرئيس التاريخيّ رونالد ريغان، الذي أرسل قوّاته إلى بيروت بعد انسحاب منظّمة التحرير الفلسطينية إلى تونس فقتل “الحزب” منها 241 جنديّاً أميركيّاً في تشرين الأوّل 1983. اضطرّ ريغان وقتها إلى سحب “جيشه المكسور” على جناح السرعة وهو يجرجر أذيال الخيبة. الفرق بين خريف 83 وخريف هذا العام هو غياب الصراع الدوليّ في الشرق الأوسط الآن، وربّما في العالم كلّه.
لا تتعلّق المسألة بغباء ريغان وذكاء ترامب، بل بتغيّر الظروف منذ ذلك الوقت. سنة 1983 أحبط تحالف ثلاثة زعماء أقوياء طموحات الرئيس الأميركي في المنطقة وهم آية الله الخميني وحافظ الأسد والزعيم السوفيتي يوري أندروبوف. قفز أندروبوف من رئاسة المخابرات السوفيتية إلى زعامة الحزب الشيوعي بعد وفاة ليونيد بريجنيف. كان شديد النقمة على ضعف القيادة السوفيتيّة السابقة، متوعّداً بتقليم أظافر الأميركيّين الذين استغلّوا ضعف القيادة في بلاده.
بمقدار تصاعد العداء بين إيران وإسرائيل وحدّة التناقض بين مصالحهما، فإنّ التلاقي الموضوعيّ بين استراتيجية كلّ منهما يدفع ثمنه العرب، وآخرهم شهداء غزّة الراقدون تحت الركام
ضعف روسيا وترنّح إيران
روى حافظ الأسد لأحد السياسيّين اللبنانيّين الذين كانوا يتردّدون عليه أنّه تعرّف إلى أندروبوف حين كان رئيساً للمخابرات السوفيتية، وأنّه لمس مقدار تشدّده تجاه الأميركيّين. أضاف الأسد أنّه كان وقتها يتمنّى أن يصبح هذا الرجل زعيماً للاتّحاد السوفيتيّ حتّى يثأر هو من الإسرائيليّين بعد الهزيمة التي ألحقوها بجيشه خلال اجتياح لبنان سنة 1982. لكنّ الموت كان أسرع ولم يحكم أندروبوف الاتّحاد السوفيتيّ إلّا لفترة 15 شهراً قبل أن توافيه المنيّة.
خلاصة القول أنّ قدرة رؤساء أميركا على تحقيق الانتصارات في الساحة الدوليّة مرهونة بطبيعة الصراع الدوليّ وحدّته. إنّ ضعف روسيا الغارقة الآن في حرب أوكرانيا وترنُّح إيران وإضعاف إسرائيل للجيش السوريّ، هي العوامل التي سمحت لدونالد ترامب أن يأتي إلى المنطقة ظافراً منتصراً فارضاً شروطه على حكّامها، في “يوم رائع وجميل” كما يحبّ أن يقول.
في غمرة الاحتفال بتوقيع اتّفاق السلام في غزّة وتبادل الأسرى من الطرفين، نسي المحتفلون سبعين ألف شهيد مدفونين تحت الركام، وآلاف الأطفال الذين ماتوا جوعاً، وأكثر من مئة وخمسين ألف جريح. نسوا أنّ غزّة تعيش اليوم الأوّل بعد مذبحة لم يشهد لها العالم مثيلاً منذ ثمانية عقود.
حضر كلّ شيء على طاولة المحتفلين إلّا سؤالاً واحداً: مَن المسؤول عن الكارثة التي حلّت بغزّة الشهيدة؟ هل قرّر العالم أن يضرب صفحاً عمّا يصحّ أن يسمّى من دون تردّد بجريمة العصر وأن يتغاضى عن محاسبة المسؤولين عن الجريمة الكبرى أمام الأمم المتّحدة أو المحاكم الدوليّة؟
في غمرة الاحتفال بتوقيع اتّفاق السلام في غزّة وتبادل الأسرى من الطرفين، نسي المحتفلون سبعين ألف شهيد مدفونين تحت الركام، وآلاف الأطفال الذين ماتوا جوعاً، وأكثر من مئة وخمسين ألف جريح
المسؤولون عن الإبادة
بمقتضى القانون الإنسانيّ، إن وُجد، يجب أن يحاكَم الإسرائيليّون الذين دمّروا غزّة وأبادوا الكثير من أهلها بدون شفقة، و”المقاومون الممانعون” الذين تسبّبوا بالكارثة ودفعوا بقطاع غزّة إلى الانتحار. لكنّ دونالد ترامب وشركاءه في مهرجان الفرح في القدس وشرم الشيخ كان همّهم في مكان آخر. همّ الرئيس ترامب أن يسجّل التاريخ أنّه هو الذي أوقف حرب غزّة وأنّ بلاده أمرت بوقف إطلاق النار، فتوقّف.
تقع المسؤوليّة أوّلاً على عاتق اليمين الإسرائيلي المتعطّش للدم، الذي يرى الفلسطينيّين مخلوقات يجب أن تُباد لأنّه لا مكان لها على وجه الأرض. تقع المسؤوليّة ثانياً على عاتق القوى الإقليميّة والمحلّيّة التي تسخِّر القضيّة الفلسطينيّة لمصالحها الخاصّة، فترفض الحلول الوسطى عندما تُعرَض، وتدفع المناضلين إلى الموت من دون حساب للربح أو الخسارة.
إقرأ أيضاً: غزّة… مَن يعيد بناء الرّماد؟
في المقلب الآخر من الخريطة السياسيّة، كان طموح إيران منذ ثورة الخميني إلى إقامة إمبراطوريّة فارسيّة في المنطقة محرّكاً للأحداث والاضطرابات فيها على مدى نصف قرن من الزمن. قامت استراتيجية إيران في هذه المرحلة على بناء علاقات وتحالفات لاستخدامها في معاركها لأجل ترسيخ نفوذها في المنطقة، حتّى إذا اقتضى الأمر دفعت حلفاءها إلى الدخول في حروب تفوق قدرتها وتعرِّضها لهزائم ساحقة. هذا هو سبب مقتلة قطاع غزّة ودمار جنوب لبنان.
بمقدار تصاعد العداء بين إيران وإسرائيل وحدّة التناقض بين مصالحهما، فإنّ التلاقي الموضوعيّ بين استراتيجية كلّ منهما يدفع ثمنه العرب، وآخرهم شهداء غزّة الراقدون تحت الركام.
