ليس السؤال عمّن سيبني البيوت المهدّمة في غزّة، بل من سيعيد للمدينة معنى السقف بعدما صار الهواء جدارها الأخير. الإعمار هنا ليس ورشة هندسيّة، بل امتحان للضمير الإنسانيّ، ولقدرة السياسة على أن تُنجب رحمةً بعد كلّ هذا الخراب. غزّة اليوم ليست ركاماً من حجارة، بل ذاكرة محروقة تبحث عن يدٍ لا تبني فقط، بل تواسي وتُؤمن بالحياة.
حين تنطفئ الحرب، تبدأ حرب أخرى، أكثر صمتاً ودهاءً: حرب المقاولين، المانحين، الوسطاء والوعود المؤجّلة. تحمل كلّ جهة معولها الخاصّ، ويخفي بعضها في جيبه خريطة النفوذ أكثر ممّا يحمل خطّة للبناء. من سيموّل؟ من سيشرف؟ هل تُبنى المدينة على نيّة العطاء أم على نيّة السيطرة؟ بين الكلمة الطيّبة والعقد المشروط، تنكشف الحقيقة: لا إعمار بريئاً في زمن الحسابات.
الإعمار عملٌ سياسيّ بقدر ما هو إنسانيّ لأنّ من يموّل يكتب الحكاية من جديد. لهذا تتسابق العواصم: من القاهرة التي ترى في غزّة امتداداً لأمنها، إلى الدوحة التي تحمل صكّ المساعدات، مروراً بعواصم أوروبيّة تتحدّث لغة الإغاثة وتفكّر بعقل الاستثمار. لكنّ بين نوايا المانحين واحتياجات المكلومين مسافةً من الرماد لا تُجتاز إلّا بصدق النيّة وشفافية اليد.
السّلطة أمام امتحان
أمّا السلطة الفلسطينيّة فهي أمام امتحان صعب: هل تستعيد دورها في إدارة المشهد، أم تُدار من فوقها لعبة جديدة بوجوهٍ قديمة؟ ثمّة من يريد أن يُعيد الإعمار ليُعيد السيطرة. وثمّة من يريد أن يُبقي غزّة معزولة كي لا تقوم لها قائمة. بين هذه الإرادات المتقاطعة، يبدو أنّ المدينة ستُبنى حجراً حجراً، لكنّ روحها ستبقى أسيرة قرار لم يُتّخذ بعد: من سيحكم ما بُني؟ من سيمنح المفتاح لأهل البيت؟
غزّة اليوم ليست ركاماً من حجارة، بل ذاكرة محروقة تبحث عن يدٍ لا تبني فقط، بل تواسي وتُؤمن بالحياة
العمل الخيريّ، مهما صدقت نواياه، يبقى زهرةً في صحراء الخراب. المتطوّعون سيعيدون بعض الضوء، لكنّ الكهرباء التي ستنير الليل تحتاج إلى قرار دوليّ، والطرق التي ستُعبَّد تحتاج إلى اتّفاق سياسيّ، والميناء الذي سيُعاد بناؤه يحتاج إلى موافقة من لا يزال يفرض على غزّة أن تتنفّس من ثقب الإبرة.

إعادة الإعمار، إذاً، ليست إعادة ما كان، بل كتابة ما سيكون. كلّ “طوبةٍ” جديدة تحمل معها توقيعاً خفيّاً: من موّلها؟ لماذا؟ من ستخدم؟
إنّ المدن، مثل البشر، تُولد من رحم ظروفها، وغزّة مرشّحة لأن تولد من جديد، لا كمدينةٍ فقط، بل كرمز لامتحان العدالة في القرن الواحد والعشرين.
لكنّ ما العمل أمام هذا الحجم من الخراب؟ حين تتجاوز الكلفة المادّية قدرة أيّ جهة منفردة، وتتحوّل الحجارة إلى أرقام في دفاتر البنك الدولي، تبرز الحاجة إلى عقل جماعيّ: تحالفٍ دوليّ وإنسانيّ لا يُقصي الفلسطينيّ عن تقرير مصيره، بل يضعه في صلب القرار. الإعمار بلا سيادةٍ هو هدمٌ مؤجّل، والإغاثة بلا كرامةٍ هي وصاية جديدة بثوبٍ أبيض.
المعادلة دقيقة: إذا تمّ الإعمار على أساس الإحسان الفرديّ، فستبقى غزّة معلّقة بين الصدقات، وإذا تمّ على أساس الصفقات السياسيّة فستُبنى الجدران بلا أرواح. المطلوب صيغة ثالثة: أن يُبنى الحجر بيدٍ إنسانيّة، وأن تُصاغ الخطّة بعقل وطنيّ لا يساوم على حقّ، ولا يُسلّم مصيره للمانحين.
إنّ المدن، مثل البشر، تُولد من رحم ظروفها، وغزّة مرشّحة لأن تولد من جديد
استعادة الثّقة
في النهاية، الإعمار الحقيقيّ ليس في الجدران بل في استعادة الثقة بالحياة. أن تعود رائحة الخبز إلى الأزقّة، وأن تمتلئ المدارس بصوت الأطفال لا بصدى الانفجارات. من سيعيد إعمار غزّة؟ ربّما كلّ من بقي فيها ولم يغادر قلبه، كلّ من لم يعتَد الموت ولم ينسَ أنّ الخراب لا يُهزم بالأسى بل بالإصرار على الغد.
إقرأ أيضاً: “لبننة” غزّة أمنيّاً: إنشاء منطقة عازلة
لن تُبنى غزّة لأنّ العالم وعد، بل لأنّ أبناءها يرفضون أن يعيشوا في الفراغ. أمّا من سيعيد إعمارها، فليس المهمّ اسمه ولا علمه، بل صِدق نيّته حين يضع الحجر الأوّل على صدر المدينة ويقول: هذا ليس مشروعاً، هذا اعتذار.
