تشكّل الحرب التي اندلعت عقب السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل منعطفاً حاسماً في هندسة التوازنات الإقليميّة بين إسرائيل وحركات المقاومة، وعلى رأسها “حماس” و”الحزب”. أظهرت تطوّرات العامين الماضيَين أنّ إسرائيل تتّجه نحو إعادة صياغة مفهوم “الردع” و”الاحتلال” بما يتجاوز نموذج غزّة التقليديّ (ما قبل الحرب)، الذي كان قائماً على سياسة “الهدوء مقابل الهدوء”، نحو نموذج أكثر تشدّداً وأطول مدى يشبه إلى حدّ بعيد ما حدث في لبنان بعد إضعاف “الحزب” وفرض منطقة أمنيّة دائمة في الجنوب، واستمرار حرّيّة التحرّك بهدف منع إعادة بناء قدراته.
مع الاستعداد لبدء المرحلة الثانية من خطّة دونالد ترامب لوقف الحرب في غزّة، يبدو أنّ هذا النموذج مرشّح لأن يُستنسخ في غزّة تحت عنوان “الوجود العسكريّ الوقائي”، أو ما يمكن تسميته “نموذج لبنان الأمنيّ”.
تحوُّل معادلة الرّدع في لبنان
بعد حرب الاستنزاف التي خاضها “الحزب” ضدّ إسرائيل إثر 7 أكتوبر، تلقّت قوّاته سلسلة ضربات استراتيجيّة غيّرت المشهد الداخلي اللبناني جذريّاً. تمّ تدمير عشرات القرى الجنوبية ونزوح نحو 120 ألف مواطن، فتولّد ضغط اجتماعيّ واقتصاديّ هائل. وفقد “الحزب” موقعه المهيمن في المعادلة السياسية اللبنانية بعد انتخاب الرئيس جوزف عون وتشكيل حكومة نوّاف سلام، وإقرار سلسلة إجراءات لتفكيك بنيته الماليّة والعسكريّة، بما في ذلك إغلاق المنافذ غير الشرعية ومنع تحويل الأموال من إيران وسورية.
مع انهيار معادلة الردع المتبادل التي سادت منذ 2006، أعلنت إسرائيل أنّها لم تعُد تقبل “معادلة التوازن التي فرضها الأمين العامّ لـ”الحزب” حسن نصرالله (“أنتم تصعّدون، نحن نصعّد”). لقد انتهى عمليّاً عهد “الاحتواء المتبادل” ليُستبدل بسياسة الضربات الوقائيّة الشاملة التي استهدفت نصرالله وخليفته وقادة “قوّة الرضوان” والبنية التحتيّة لـ”الحزب” في الجنوب والبقاع.
مع سقوط نظام بشّار الأسد وتبدّل موازين القوى في سورية، فقد “الحزب” عمقه الاستراتيجيّ، وتحوّل إلى فاعل محلّي محدود النفوذ، متمسّك بسلاحه كآخر رموز بقائه السياسي.
قد تشكّل خطّة ترامب نهاية للحرب في غزّة وتفتح مسارات جديدة للتفاوض على التسوية التي تؤدّي إلى السلام في الشرق الأوسط
من النّموذج الشّماليّ إلى الجنوب الفلسطينيّ
في موازاة هذا التحوّل ومع اقتراب نهاية الحرب في غزّة، ظهرت في الأوساط الإسرائيليّة أطروحة جديدة تروّج لما يسمّى بـ”النموذج الشماليّ”، أي تجربة المواجهة مع “الحزب” كمرجع لإدارة الصراع مع غزّة.
وفق هذه الرؤية، يجب إنهاء سياسة “الجولات الدوريّة” والعودة إلى وجود عسكريّ دائم ومبادر داخل المناطق العازلة المحيطة بالقطاع، بحيث يتمّ التعامل مع أيّ نشاط مقاوم كتهديد مباشر يستوجب ردّاً ناريّاً فوريّاً.
قال أحد المحلّلين الإسرائيليّين في صحيفة يديعوت أحرونوت (2025): “النصر الحقيقيّ لا يتحقّق باتّفاقات أو ضمانات دوليّة، بل بترسيخ حضور ميدانيّ دائم يقطع الطريق أمام عودة الإرهاب”. وبرأي العديد من الأمنيّين الإسرائيليّين، “لم تعُد مناسبةً سياسةُ جزّ العشب ولا الاحتواء ولا محاولة منع التصعيد، فالواقع الجديد الذي نراه بوضوح وراء السياج هو فرْض واقع أمنيّ حازم ويوميّ لا مساومة فيه”.

بهذا المعنى، يتّجه الجيش الإسرائيلي نحو تطبيق نموذج مشابه لما فرضه في الجنوب اللبناني بعد 2024، عندما أقام منطقة أمنيّة تمتدّ حتّى نهر الليطاني، مع تفويض واسع للجيش بالتحرّك المستقلّ ضدّ أيّ محاولة لإعادة بناء البنى العسكريّة لـ”الحزب”.
أبعاد سياسيّة وأمنيّة لاستنساخ النّموذج
لا يعني استنساخ نموذج لبنان في غزّة بالضرورة العودة إلى احتلال شامل، بل فرض واقع أمنيّ طويل الأمد تتحكّم فيه إسرائيل مباشرة عبر “منطقة حزام أمنيّ” تُدار بآليّات أمنيّة واقتصاديّة محدّدة. ويقوم هذا النموذج على ركائز ثلاث:
1- الردع الوقائيّ: أي ضرب أيّ بنية عسكريّة قبل اكتمالها، تماماً كما جرى مع “الرضوان” في الجنوب اللبناني.
2- التحكّم الديمغرافيّ والاقتصاديّ: من خلال إبقاء السكّان في حالة اعتماد على المساعدات المشروطة أمنيّاً.
تسعى إسرائيل إلى تفادي هذا الخطأ في غزّة من خلال تمسّكها بالإشراف الأمنيّ المباشرعلى القطاع
3- فصل القيادة عن القاعدة الاجتماعيّة: عبر استهداف شبكات “حماس” العسكريّة والماليّة، كما فُعل مع “القرض الحسن” في لبنان.
هذه المقاربة، وإن بدت ناجحة ميدانيّاً في إضعاف حركة “حماس”، تحمل احتمال تحويل الصراع من مواجهة بين إسرائيل و”الحركة” أو بين كيانين إلى حالة “احتلال دائم منخفض الكثافة”، شبيهة بتجربة جنوب لبنان بين 1985 و2000، التي انتهت بانسحاب إسرائيليّ تحت الضغط الداخليّ والدوليّ.
معضلة مقاربة “الوجود الوقائيّ”
تشير عدّة دراسات إلى أنّ “النماذج الأمنيّة التي تعتمد “الوجود الوقائيّ” تنجح مؤقّتاً في تحقيق الاستقرار، لكنّها تفشل في بناء منظومة سياسيّة مستدامة، لأنّها تغفل العامل الهويّاتيّ والمجتمعيّ الذي يعيد إنتاج المقاومة بأشكال جديدة.
أظهرت تجربة لبنان أنّ سياسة “الترويض الأمنيّ” أدّت إلى تعميق انقسام المجتمع، لكنّها لم تُلغِ فكرة المقاومة عند “الحزب” وجمهوره، بل أعاد التمسّك بها ضمن أطر متعدّدة، فبات قادراً على العودة تدريجاً إلى الساحة. أحد مؤشّرات العودة هذه هو استعداد “الحزب” لخوض الانتخابات النيابية المقبلة مع إمكان إعادة إحياء تحالفات قديمة على الرغم من ابتعاد عدد من الحلفاء عنه.
في المقابل، قد تسعى إسرائيل إلى تفادي هذا الخطأ في غزّة من خلال تمسّكها بالإشراف الأمنيّ المباشرعلى القطاع، وهو ما يطرح أسئلة عن كيفيّة التعامل مع السلطة المحلّية المطروحة والمجلس الدولي للإشراف عليها.
من الممكن أن يحوّل الإشرافُ الأمنيّ الإسرائيليّ المباشر على القطاع مع الاحتفاظ بمنطقة عازلة غزّةَ إلى نسخة محدثة من الجنوب اللبناني في التسعينيّات، مع مراقبة دوليّة محدودة، وتدخّل أميركي مباشر في إعادة الإعمار والإشراف على الترتيبات الأمنيّة.
لا يعني استنساخ نموذج لبنان في غزّة بالضرورة العودة إلى احتلال شامل، بل فرض واقع أمنيّ طويل الأمد تتحكّم فيه إسرائيل مباشرة
النّموذج الأمنيّ غير مستدام
قد تشكّل خطّة ترامب نهاية للحرب في غزّة وتفتح مسارات جديدة للتفاوض على التسوية التي تؤدّي إلى السلام في الشرق الأوسط، علماً أنّ تمسّك الدول العربية والإسلامية بحلّ الدولتين، يقابله رفض إسرائيليّ مدعوم بأكثريّة 80% من الإسرائيليّين. يبدو أنّ اسرائيل لم تستطِع حتّى الآن الخروج من تأثير السابع من أكتوبر، وباتت سيطرة التفكير الأمنيّ على السياسي مطلقة.
يُظهر تحليل النموذجَين اللبنانيّ والغزّيّ أنّ إسرائيل تتّجه نحو إعادة تعريف مفهوم “الأمن” من الدفاع عن الحدود إلى إدارة المجتمعات المعادية عبر أدوات عسكريّة واقتصاديّة طويلة المدى. غير أنّ هذا المسار قد يقدّم لإسرائيل حلولاً ذات طابع تكتيكيّ، لكنّه لا يقدّم حلّاً استراتيجيّاً مستداماً. إذ يُبقي جذور الصراع قائمة، ويحوّل المناطق الحدودية إلى مختبرات لسياسات السيطرة غير المباشرة.
تعمل إسرائيل على تثبيت هذا الواقع الذي يعقّد إنتاج الحلّ المستدام واللعب على الوقت بهدف تغيير الوقائع في الضفّة الغربيّة لدفن حلّ الدولتين.
من جهة أخرى، يكرّس “التمسّك بنموذج لبنان واستنساخه في غزّة” واقعاً جديداً قد يعيد إنتاج المقاومة تحت أشكال مختلفة، ويعطي إيران مزيداً من الذرائع للتمسّك بعقيدة “الأذرع الإقليمية”، وبالتالي يمنع قيام سلطة وطنيّة مستقلّة في غزّة، ويعطّل خطّة الدولة اللبنانية الهادفة إلى حصر السلاح في أيدي قوّاتها الشرعيّة.
إقرأ أيضاً: مصلحة لبنان في فكّ الارتباط بغزّة…
مع غياب تسوية سياسيّة شاملة، فإنّ أيّ “نموذج أمنيّ” سيظلّ رهناً بعوامل الانفجار التي تتغذّى من المظلوميّة والاحتلال، لا من ميزان القوى وحده.
* أستاذ العلوم السياسيّة في الجامعة اللبنانيّة.
لمتابعة الكاتب على X:
