فيما يخوض المكوّنان الشيعي والسنّي صراعاتهما الداخلية عشيّة الانتخابات النيابيّة التي ستجري في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني المقبل، يبدو أنّ المكوّن الكرديّ ليس استثناء في ذلك.
سلّط حادث اغتيال صفاء المشهداني عضو مجلس محافظة بغداد وأحد الوجوه القيادية في منطقة الطارمية شمال بغداد، الضوء على الصراعات داخل المكوّن السنّي من جديد، بعد انهيار المصالحة التي جرت بين أقطابه، أي محمد الحلبوسي رئيس البرلمان المقال وزعيم حزب “تقدّم”، وخميس الخنجر زعيم حزب “سيادة”، لا سيما أنّ المشهداني هو من قيادات حزب “السيادة” وأحد أبرز المرشّحين الذي تمّ اختياره لتمثيل حزبه عن دائرة بغداد. يومها بقي مثنى السامرائي زعيم حزب “عزم” خارج المصالحة.
اغتيال في لحظة حرجة
على الرغم من مسارعة الحكومة إلى تشكيل لجنة تحقيق في الاغتيال، تكاد تكون جميع الأطراف متّفقة على أنّ هذا الاغتيال يحمل أبعاداً سياسيّة واضحة، ولا صحّة لمحاولات وصف الجريمة بأنّها مرتبطة بصراعات تتعلّق بمشاريع استثماريّة في منطقة الطارمية قامت بها جماعات مستفيدة من الاستيلاء على الأراضي لبناء مشاريع تجاريّة، خاصّة أنّ المشهداني يُعتبر رأس حربة في مواجهتها.
سلّط حادث اغتيال صفاء المشهداني الضوء على الصراعات داخل المكوّن السنّي من جديد، بعد انهيار المصالحة التي جرت بين أقطابه
إلّا أنّ هذه السيناريوهات لم تستبعد العامل السياسيّ وراء الاغتيال لأنّه يأتي في لحظة حرجة في سياق الصراع بين أطراف المكوّن السنّي وداخل البيت الواحد ضمن المعركة الانتخابية التي يحاول فيها كلّ طرف احتكار التمثيل السنّي لنفسه ولحلفائه، في ضوء دخول الخنجر انتخابات بغداد بشخصيّة قادرة على تحقيق الفوز وتساعد في فوز مرشّحين آخرين للحزب نفسه. وهو ما يعني ضرب المعادلة التي أرستها انتخابات عام 2021 في تمثيل المكوّن السنّي في العاصمة وحصر غالبيّته في طرف واحد منافس للخنجر.
أعاد اغتيال المشهداني تسليط الضوء على الصراعات الانتخابيّة داخل المكوّن السنّي التي يتقاسمها الثلاثيّ المكوّن من “تقدّم”– الحلبوسي و”السيادة” – الخنجر و”عزم” – السامرائي، خاصّة الحلبوسي الذي تخلّى عنه حلفاؤه في السابق وأخرجوه من المعادلة السياسية بعد إقالته من رئاسة البرلمان وشطب عضويّته النيابيّة.
عودة الحلبوسي
تشكّل هذه الانتخابات فرصة للحلبوسي للعودة إلى الحياة السياسيّة وتعزيز طموحه إلى العودة إلى رئاسة البرلمان مرّة جديدة، خاصة بعد تجارب فاشلة لم يستطع فيها إيصال مرشّح من حزبه لهذه الرئاسة ليكون بديلاً عنه، في حين استطاعت التسوية التي عقدها المالكي مع قيادات المكوّن السنّي انتخاب محمود المشهداني.
قائدا “السيادة” – الخنجر و”عزم” – السامرائيّ يتّهمان الحلبوسي باستخدام المال السياسيّ وما يملك من نفوذ داخل محافظة الأنبار، التي تُعتبر ثاني أكبر تجمّع نيابيّ للمكوّن السنّي بعد الموصل، لمنع حزبَي “السيادة” و”عزم” من عقد مؤتمرات ولقاءات انتخابية لأبناء المحافظة، في محاولة منه لمنع التواصل والعمل من أجل احتكار مقاعدها الخمسة عشر لحزبه.
لا توحي الأجواء بوجود طرف قادر على تقريب وجهات النظر بين هذه الأقطاب، على عكس ما حصل عام 2021 عندما تدخّل الرئيس التركيّ رجب طيّب إردوغان ورئيس استخباراته حينها حاقان فيدان لرعاية مصالحة بين الحلبوسي والخنجر. لكن سرعان ما انهارت نتيجة تجدّد الصراعات بينهما على حجم التمثيل والشراكة في الدولة ومؤسّساتها. كان الهدف من هذه المصالحة تمهيد الطريق أمام تأسيس “إطار تنسيقيّ” سنّي مشابه لـ”الإطار التنسيقي” الشيعي، قادر على مخاطبة الآخرين من موقع القوّة، ويعزّز مشاركة المكوّن في العمليّة السياسيّة ويتيح له عقد تحالفات تخدم مصالحه، سواء مع أطراف من المكوّن الشيعي أو من المكوّن الكرديّ.
فيما يخوض المكوّنان الشيعي والسنّي صراعاتهما الداخليّة، يبدو أنّ المكوّن الكرديّ ليس استثناء في ذلك
تكريس الثّنائيّة لدى الأكراد
فيما يخوض المكوّنان الشيعي والسنّي صراعاتهما الداخليّة، يبدو أنّ المكوّن الكرديّ ليس استثناء في ذلك. تدفع المؤشّرات داخل الإقليم باتّجاه عودة تركيز الصراع على التمثيل الكرديّ بين الثنائيّة الحزبيّة، “الديمقراطي” بزعامة مسعود بارزاني و”الاتّحاد الوطنيّ” بقيادة بافل طالباني.
إذا ما كان الحزب “الديمقراطي” قادراً على فرض إرادته الانتخابية في مناطق نفوذه في محافظتَي إربيل ودهوك، ليحصل على الحصّة الكبرى في المناطق المتداخلة، خاصّة في كركوك ومحيط نينوى، بالإضافة إلى محاولته مدّ اليد على حصّة “الأكراد” الفيليّين في بغداد وواسط، فإنّ “الاتّحاد الوطني” دخل في معركة تنظيف في مناطق سيطرته، أي في السليمانية وحلبجة، حيث استطاع على مدى الأشهر الماضية التخلّص من القوى التي تشكّل تهديداً لسلطته ونفوذه وحصريّة دوره كأحد طرفَي الثنائيّ الذي استأثر بتمثيل المكوّن الكرديّ.
استطاع “الاتّحاد الوطني” وبافل طالباني التخلّص من نفوذ قريبه وابن عمّه لاهور شيخ جنكي طالباني والزجّ به في السجن، وإنهاء مشروعه لتكريس الحزب الذي أسّسه باسم “جبهة الشعب” شريكاً في تقاسم النفوذ في محافظة السليمانية التي تُعتبر مركز سلطة بافل. لم يأخذ قرار التخلّص من لاهور بعين الاعتبار علاقاته الواسعة مع الولايات المتّحدة الأميركيّة أو مع دول إقليمية وعربيّة وحتّى مع قيادات عراقيّة من مكوّنات أخرى.
كذلك شكّل اعتقال ساشوار عبد الواحد رئيس حركة “الجيل الجديد” والزجّ به في السجن بتهم فساد خطوة أخرى قام بها طالباني لضرب مصادر القلق داخل الإقليم، خاصّة بعدما قاد ساشوار الحراك الشعبيّ المعروف بحراك 17 تشرين، وبدأ يتحوّل إلى حزب فاعل في المشهد السياسيّ في السليمانيّة.
يسعى طالباني وحزب الاتّحاد إلى الحدّ من الاستنزاف الذي يتعرّض له، لأنّه الجسد الذي خرجت وتفرّعت منه معظم الأحزاب الكرديّة، مثل “تيّار التغيير” الذي يملك مقاعد نيابيّة في البرلمان، ومن نوّابه سروة عبد الواحد شقيقة ساشوار، ولاهور شيخ جنكي من القادة الذين انشقّوا عنه.
شكّلت خطوة إعلان حلبجة محافظة جديدة تضاف إلى محافظات الإقليم قوّة دفع سياسيّة وشعبية لطالباني، وساعدت في تكريس شراكته في إطار الثنائيّة الكردية. إذ بات يتمتّع بنفوذ مطلق على محافظتَي السليمانيّة وحلبجة مقابل محافظتَي إربيل ودهوك للديمقراطي الكردستاني. وبالتالي بات قادراً على تعزيز حصّته البرلمانية، بالإضافة إلى قدرته على المناورة بشكل أكبر وفرض شراكته على غريمه الديمقراطيّ من خلال التلويح بالانفصال عن إربيل.
دخل السوداني في تحالفات واضحة مع أطراف في الحشد الشعبي الذي يتعرّض لضغوط أميركيّة وعربيّة تطالب بحلّه وإنهاء دوره
2 مليار دولار للاعلانات؟
إذا ما كانت معادلات الصراع الداخليّ قد رست على استقطابات واضحة داخل كلّ مكوّن، فإنّ احتدام المعركة وحجم الدعاية الانتخابيّة التي تقدّر قيمتها بحوالي 2 مليار دولار، ونشر أكثر من مليون لوحة إعلانية كبيرة على مساحة العراق، تحمل على الاعتقاد بأنّ هذه القوى بمختلف انتماءاتها غير قلقة من الضغوط الخارجيّة التي قد تعرقل إجراء الانتخابات أو تلغيها.
إقرأ أيضاً: العراق: انتخابات الصراعات الأفقية والعمودية..(1/2)
تسعى هذه القوى إلى عقد تحالفات مع أحزاب صغيرة قد يكون الهدف منها تشتيت الأصوات، إلّا أنّها لا تخشى إمكان مساءلتها لاحقاً لأنّ بعض هذه القوى تنتمي إلى جهات مرفوضة من العمق العربيّ والإدارة الأميركيّة.
دخل السوداني الذي يراهن على العودة إلى الحكومة وأن يكون مقبولاً من المجتمع الدوليّ وواشنطن، في تحالفات واضحة مع أطراف في الحشد الشعبي الذي يتعرّض لضغوط أميركيّة وعربيّة تطالب بحلّه وإنهاء دوره. لا يُعتبر السوداني استثناء في هذه التحالفات، فالأحزاب السنّية والكرديّة نسجت تحالفات مشابهة أيضاً.
يبدو أنّ القوى العراقيّة وصلت إلى تفاهمات، خاصّة مع واشنطن، على مشاركة الأحزاب والفصائل المحسوبة على الحشد الشعبي، والمعادلة التي قد يُعمل من أجلها هو احتفاظ هذه الفصائل والقوى بتمثيلها النيابيّ، مقابل منعها من المشاركة في السلطة التنفيذيّة والحصول على حصص في مقاعد الحكومة المقبلة.
