الشرع في موسكو: شرّ لا بدّ منه

مدة القراءة 6 د

حين التقى الرئيس السوري أحمد الشرع بنظيره الروسيّ فلاديمير بوتين في الكرملين في موسكو قبل أيّام، أمكن تخيّل أنّ بوتين سأل ضيفه عن مزاج الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي التقاه الشرع في أيلول في نيويورك، وعمّا سمعه من الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون الذي التقاه الشرع في الإليزيه بباريس في أيار. 

 

سأله أيضاً عن انطباعاته بعدما زار عواصم المنطقة، وعقد اجتماعات مع زعماء دول على هامش أعمال الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة قبل أسابيع. قد يكون ذلك خيالاً، لكنّ الشرع جاء إلى بوتين متسلّحاً بدعم دوليّ لا يتوقّف.

ممّا شاهدناه من تبادل الكلمات بين الرئيسين بعد حفاوة تقصّدت موسكو إظهارها لضيفها ولمن يهمّه الأمر، أمكن استنتاج مستوى الثقة الذي يتوجّه به الشرع إلى بوتين. كان واضحاً بالنسبة للرئيس الروسيّ أنّ سوريا تغيّرت، وتغيّرت جدّاً عمّا عهده بوتين في تعامله مع سوريا ورئيسها المخلوع. تعمّد سابقاً إظهار استخفافٍ بضيفه، وخفضٍ لطقوس استقباله، وتغييبٍ مُذلٍّ لعلم بلاده. بدا الشرع ندّاً في مخاطبة زعيم دولة عظمى، مبدّداً الصورة النمطيّة التي كانت تعامل بها روسيا وزعيمها سوريا السابقة ورئيسها المخلوع.

يذكّرنا الشرع قبل أيّام أنّ “هيئته” كانت تنسّق مع القوّات الروسيّة في سوريا، فابتعدت عن طريق قوّاته في حمص في معركة عبورها من إدلب إلى دمشق. فضح ذلك الكشف تواصلاً بمستوى التواطؤ قاد إلى سقوط بشّار الأسد ونظامه. لا بدّ أنّ بوتين نفسه يتذكّر أنّه في عزّ فوضى التحوّلات المبكرة بعد هروب الأسد، وتدافع الأوروبيّين للضغط على حاكم سوريا الجديد بما يشبه “التعليمات” لطرد روسيا من سوريا وإقفال ما تملكه من قواعد عسكريّة، قال الشرع: “لن أفعل”، مستنكراً خروجاً “لا يليق بعلاقة روسيا القديمة مع سوريا”.

تملك روسيا أوراقاً تُفهم نظام دمشق الجديد أنّها “شرّ لا بدّ منه”

أوراق روسيا

لكنّ علاقات الدول لا تقوم على “قصص الغرام”. تملك روسيا أوراقاً تُفهم نظام دمشق الجديد أنّها “شرّ لا بدّ منه”. والأرجح أنّ رسالة أحداث الساحل في آذار الماضي قد وصلت، خصوصاً حين أطلّت شخصيّة مؤيّدة لنظام الأسد من موسكو لتعلن على الهواء مباشرة أنّها كانت بنفسها وراء تمويل ما ارتقى إلى مستوى الانقلاب على الحكم الجديد. لكنّ ذلك تفصيل.

الشرع

تملك روسيا حقّ النقض في مجلس الأمن، وهي المصدر الأمثل للسلاح للجيش السوريّ حتّى إشعار آخر. هي مورّد للطاقة والغذاء من دون المرور ببيروقراطية العقوبات البطيئة الغياب. تملك روسيا علاقات مصالح ونفوذ مع تركيا وإسرائيل. الأهمّ أنّها تملك تبريد الرؤوس الحامية داخل سوريا التي تعوّل على موسكو لانتزاع حكم ممّن أقسموا إنّ “دمشق لنا إلى يوم القيامة”.

ذهب الشرع إلى روسيا في التوقيت الأمثل. ذهب مستقوياً بما نجح ونظامه في نسجه من علاقات أظهرت دعماً سعوديّاً منهجيّاً وبنيويّاً. يعرف بوتين ماذا يعني ذلك ويعرف تماماً ما يعنيه وليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان، الذي يعرفه جيّداً، من وراء ذلك. جاء الشرع بعدما أمعنت واشنطن في إظهار دعمٍ لدمشق لا يدّخر مبعوث ترامب توم بارّاك جهداً للتعبير عنه. جاء الشرع بعدما أنهت دمشق تشكيل برلمانها الشهر الماضي الذي وجده بوتين مناسبة للتهنئة بسبب ما يعزّز من “روابط وتفاعل بين جميع القوى السياسيّة”.

الشرع جاء إلى بوتين متسلّحاً بدعم دوليّ لا يتوقّف

لا بأس أن يجاري الشرع أطوار بوتين الغريبة ويصعد درج الكرملين الطويل. صعده برشاقة بعدما صعد أدراجاً مستحيلة منذ بدء حكايته الشخصيّة التي انتقل فيها من المغاور المتوارية إلى كبرى عواصم الدنيا. لكنّ المفارقة أنّ الشرع بعدما أنهى “ورشة” مع الغرب الذي عادت أعلامه ترفرف في دمشق، وصل موسكو بما يشبه خارطة تُرضي الجميع.

لافروف: لن نسمح للسُنّة بحكم سوريا

الثابت أنّ الولايات المتّحدة لا يضيرها هذا الوصل بين دمشق وموسكو فيما ترامب يتحضّر لاجتماع جديد مع بوتين لوقف حرب أوكرانيا. المستنتَج أنّ أوروبا ابتلعت ضغوطها لدفع الشرع إلى طرد الروس وسكتت. والمعروف أنّ تركيا قد رتّبت كثيراً من آليّات التواصل بين سوريا الجديدة وروسيا. الملاحظ أنّ إسرائيل مرتاحة لبقاء روسيا في سوريا كعامل توازن يحدّ من طموحات تركيا داخل سوريا.

قال وزير الخارجية الروسيّ سيرغي لافروف عام 2012: “لن نسمح للسُّنّة بحكم سوريا”. فهم بوتين إشارة الشرع إلى أنّ سوريا ستحاول “إعادة ضبط” علاقاتها مع روسيا. لن تكون العلاقة أبداً كما كانت في عهد “الأسدين” الزائلين. لكنّ الزعيم الروسي، في عزّ أزمة بلاده المنخرطة في حرب في أوكرانيا خرجت عن حساباته، بدا مرتاحاً إلى أنّ بلاده من خلال علاقاتها مع سوريا وبقاء قواعدها هناك ستبقى مطلّة على البحر المتوسّط، محافظةً على يد طولى في إفريقيا، وسيتعزّز دورها في الشرق الأوسط المتحوّل.

بقي أمام الشرع إزالة اللّبس مع الصين حتّى يتمكّن من كسب ودّ كلّ حاملي بطاقات الفيتو الخمس في مجلس الأمن الدوليّ، وهذه حكاية أخرى

في طهران مَن رأى في المناسبة “نكسة”، لكنّها نموذج قد تحتذي به دمشق في مقاربة علاقاتها مع إيران بصفتها داعماً سابقاً مثل روسيا لنظام الأسد. وفي لبنان مَن تأمّل من داخل “الحزب” ما يعنيه الحدث، بعد ساعات من زيارات الوزراء السوريّين لبيروت، من إعادة تموضع سيضطرّ “الحزب” إلى القيام بها، إلى ابتلاع ما بات أمراً واقعاً وضريبةً موجعة يفرضها قدر الجغرافيا وتقلّبات التاريخ.

إقرأ أيضاً: بوتين – الشّرع: لقاء المصالح وسيادة الممكن

اللّبس مع الصّين

بقي أمام الشرع إزالة اللّبس مع الصين حتّى يتمكّن من كسب ودّ كلّ حاملي بطاقات الفيتو الخمس في مجلس الأمن الدوليّ، وهذه حكاية أخرى. لن يتمكّن الرئيس السوري من الوثوق بروسيا التي كانت نيرانها تلاحقه في إدلب. هي “شرّ لا بدّ منه”، فمن شأنها أن تعينه ضدّ شرور تتربّص بسوريا وتحوّلاتها “العجيبة”. من تلك العجائب أن يتأمّل الأسد من شرفته مرور موكب صاخب للرئيس السوريّ الجديد في شوارع موسكو تعبّر مشهديّته عن أنّ سوريا الأسد انتهت إلى الأبد.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

السّعوديّة طوق النّجاة للبنان

ثلاث ثوابت تحكم علاقة المملكة العربيّة السعوديّة بلبنان: الحرص على وحدة لبنان وسلامته وازدهاره. التعامل مع لبنان على قاعدة المؤسّسات والشراكات السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة. التعامل…

“الحزب” يريد تطويع “الطّائف”

ثمّة خلط في المصطلحات، بين حقّ المقاومة، وبين سلاح المقاومة. يستند “الحزب” إلى الأوّل، لتبرير التمسّك بالثاني. الفرق نوعيّ بين الأمرين. حقّ الدفاع عن النفس،…

أسعد الشّيباني… المُمسك بشعرة معاوية

إلى نادي وزراء الخارجيّة في العالم انضمّ عضو جديد قبل عامٍ إلّا أيّاماً، اسمه أسعد حسن الشيباني. ملأ مقعده حتّى ليخيّل للمتابع أنّه دائم فيه،…

قمّة الحسم بين الرّئيس والأمير

من بين كلِّ القمم واللقاءات التي عقدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الثانية مع قادة العالم، بمَن فيهم الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، ستكون قمّتُه…