البعد الفلسطينيّ الرّابع: تفوّق الدّبلوماسيّة السعوديّة

مدة القراءة 5 د

ينطلق مع زيارة دونالد ترامب الخاطفة للمنطقة البُعد الرابع في تاريخ القضيّة الفلسطينيّة الذي خطّته السعوديّة عبر إصرارها على حلّ الدولتين فجلبت العالم بأسره إلى ملعبها، فيما كان البعد الأوّل مع قرار تقسيم فلسطين، والبعد الثالث مع “الطوفان الأقصى”.

 

اليوم، تبدّل المشهد ودخل اتّفاق وقف إطلاق النار في غزّة حيّز التنفيذ. المنطقة في طور اتّفاق مصيريّ وُجد لكي يصمد لأنّه أكبر من أن يُخرق. دخل فجر الدولة الفلسطينية المجال الحيويّ، مع انقلاب الدبلوماسية العربية بقيادة المملكة السعوديّة على المخطّطات الإسرائيليّة. أدخِلت التعديلات على المسوّدات الأميركيّة، وأوقفت الجموح الإسرائيلي.

شدّد العرب على حلّ الدولتين. حاربوا فكرة ضمّ الضفّة الغربية، واستشرسوا لمواجهة الترحيل من غزّة. جمّدت السعوديّة سلسلة أبراهام الأميركيّة الاقتصاديّة المستثنية للحقّ الفلسطيني. يتمحور الهدف السعودي والعربي بالتعاون مع الحلفاء الدوليّين على توجيه الظروف لقيام الدولة الفلسطينيّة، وتذليل العقبات التي تعرقلها. هكذا انطلق البعد الرابع بالبصيرة السعوديّة وعنوانه الدولة الفلسطينيّة.

الأبعاد التّاريخيّة

توالت الأحداث خلال السنتين المنصرمتين، فتلاشت القضيّة الفلسطينية بعد عبورها ثلاث مراحل أو أبعاد تاريخيّة:

– البعد الأوّل: يمتد بين النكبة والنكسة ومرحلة التحارب العربيّ الإسرائيلي المباشر، مروراً بتأسيس منظّمة التحرير والعمل الفدائي الفلسطينيّ المسلّح.

– البعد الثاني: بدأ مع سقوط المواجهات العسكريّة وانطلاق زمن الدبلوماسيّات والسلام المنفرد. توّجته انتفاضة الحجارة الأولى وخطوة تأسيس السلطة الفلسطينيّة. انتهى مع اتّفاق أوسلو وغرق المساعي بالفشل وأُجهض فيه حلم الدولة بسبب أخطاء الداخل الفلسطينيّ والإجرام الإسرائيلي.

قلبت السعودية بشخص وليّ عهدها الطاولة على الجميع بدءاً من الأميركيّ والأوروبيّ فالإسرائيليّ

– البعد الثالث: بدأ مع حرب تشرين الثانية في عام 2023. تسبّبت عمليّة طوفان الأقصى بنكبة غزّة مع استشهاد أكثر من 70 ألف فلسطينيّ. تدمّرت البنية التحتيّة. ودخل الكيان الإسرائيلي في عزلة دوليّة ونقمة مجتمعيّة عالميّة. عاد زخم القضيّة الفلسطينيّة مع انتصار الدبلوماسيّة العربيّة بسلوك حلّ الدولتين، بتفويض أمميّ، طريقه السليم بقيادة سعوديّة فرنسيّة.

السعوديّة

– البعد الرابع: انطلق بعد توقيع اتّفاق وقف إطلاق النار، الذي أنهى معركة “طوفان الأقصى”. سلك دربه بعد زيارة ترامب لإسرائيل وخطابه في الكنسيت وإعلان عزمه المضيّ بالسلام العادل، فيما القمّة العالميّة في شرم الشيخ مدخله الأساسيّ. هو بُعد الدولة الفلسطينيّة بالرؤية السعوديّة.

العالم بين “تشرينَين”

لم يكن يوم 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023 عاديّاً. كذلك هو الأمر بالنسبة إلى 9 تشرين الأوّل 2025. تحوّل الموقف من فكرة تأسيس تحالف دوليّ للقضاء على الإرهاب والاقتصاص من “حماس”، من دون أيّ أثر للدولة الفلسطينيّة، إلى تشكيل تحالف دوليّ لتكريس حلّ الدولتين من دون “حماس” سياسيّاً. ساهمت عوامل ثلاثة في هذه المشهديّة وحدّدت الخاسر والرابح:

– صمود الشعب الفلسطينيّ.

– الدبلوماسية العربيّة غير العاديّة بقيادة المملكة العربيّة السعوديّة.

– تغيير مزاج المجتمع الدوليّ والدول الكبرى لناحية تقويمهم للقضيّة الفلسطينيّة نظراً لنجاح دبلوماسيّة الإقناع السعوديّة.

خاسران وثلاثة رابحين

خسر كلّ من الكيان الإسرائيلي وبنيامين نتنياهو. فشل مخطّطهم في تهجير الشعب الفلسطيني واسترداد الرهائن. خسرت أيضاً “حماس” بعد خروجها من الحكم وتوقيعها على وثيقة وقف اطلاق النار. فيما ربح كلّ من الشعب الفلسطيني والدبلوماسية العربية ودونالد ترامب، ويقع على عاتق الشعب الفلسطيني إصلاح ذاته وتنظيم مقدّراته وتكوين سلطته من جديد على قاعدة الطلاق مع الأساليب الماضية واكتساب الثقة الفلسطينية والعربية والدولية.

تغيير مزاج المجتمع الدوليّ والدول الكبرى لناحية تقويمهم للقضيّة الفلسطينيّة نظراً لنجاح دبلوماسيّة الإقناع السعوديّة

سعت إسرائيل من خلال حرب تشرين الثانية إلى تطبيق خطّة صفقة القرن وسلسلة أبراهام بالصيغة الاقتصاديّة المنطلقة من عدميّة وجود الدولة الفلسطينية، فيما تمكّنت السعوديّة بحذاقة وجدارة من تجميد اتّفاقات أبراهام. فرضت حلّ الدولتين من بعيد. ورمّمته من بين أنقاضه. صاغت جسمه ومتنه من عظام الصراع الكبير والطويل. استفادت من مروحة كبرى اعتمدت فيها على براغماتيّة الإقناع، وإعادة تصحيح وتدوير كلّ الأخطاء الماضية ومعالجة ثغراتها.

الدّواء في وصفة وليّ العهد السّعوديّ

قرأ الأمير محمّد بن سلمان المشهد الفلسطينيّ بدقّة لامتناهية. أعدّ له الدواء والوصفة الديناميكيّة البراغماتيّة المناسبة.

قلبت السعودية بشخص وليّ عهدها الطاولة على الجميع بدءاً من الأميركيّ والأوروبيّ فالإسرائيليّ. اعتمدت على تطبيق المعادلة ذاتها بطريقة معاكسة تماماً. فرضت ثوابتها ومسلّماتها بوضوح ودقّة. هدّدت بأن لا سلام ولا استقرار من دون الدولة الفلسطينيّة. انطلقت من وعد بلفور إلى مبادرة حلّ الدولتين العربية، وجعلت من الدولة الفلسطينية المدخل الوحيد لأيّ تسوية.

تغيّر الواقع بين خطاب جو بايدن في إسرائيل مع بداية معركة طوفان الأقصى، وخطاب ترامب في الكنيست. تبدّلت الأحوال مع مشهديّة القمّة العالميّة في شرم الشيخ. شهد العالم مواطن نفوذ وتموضعات متنوّعة بين الشرق والغرب.

إقرأ أيضاً: بن سلمان وكوفيّة الختيار..

تقترب الإدارة الأميركيّة من الرؤى والمسلّمات العربيّة السعوديّة والأوروبيّة. باتت تخشى العزلة وهذا ليس أمراً عاديّاً. عكست المملكة العربية السعوديّة الموازين برزانة ورويّة. طبعت بصمتها على الصورة الكبيرة والصغيرة من اتّفاق وقف إطلاق النار. جلبت العالم بأسره إلى ملعبها. ولحقها العالم من باريس إلى لندن وحتّى واشنطن نحو البعد الرابع الفلسطينيّ. هو زمن الاستقرار والدولة الفلسطينيّة.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@ElMehiedine

مواضيع ذات صلة

الشرع- ترامب: ماذا دار في “الاجتماع السّرّيّ”؟

استغرقت رحلة الرئيس السوريّ أحمد الشرع أحد عشر شهراً من إدلب إلى واشنطن. من يستمع إلى كلمات الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، منذ لقائهما الأوّل في…

لبنان يدور على ذاته… وسوريا في البيت الأبيض!

يُفترض أن يميّز الوضوح الخطاب السياسيّ اللبنانيّ في وقت تزداد الضغوط الأميركيّة، ذات الطابع الماليّ والاقتصاديّ، على البلد من جهة، والضغوط العسكريّة الإسرائيليّة من جهة…

نتنياهو يُعمّم الفوضى… ليستمرّ

منذ تشكيله ائتلافه اليمينيّ المتطرّف في كانون الأوّل 2022، يجد رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو نفسه أمام أزمات تتراكم ولا تنتهي، من فضائح فساد شخصيّة،…

فيدان في واشنطن: بداية مثلّث إقليميّ؟

لن يكون التصعيد التركيّ – الإسرائيليّ حدثاً طارئاً أو عمليّة كرٍّ وفرٍّ في مواجهتهما على أكثر من جبهة وحسب، بل حلقة جديدة في مسار صراع…