بكوفيّته البيضاء المرقّطة، وقف ختيار فلسطين على منبر الأمم المتّحدة، ليضع العالم أمام خيارين: جئتكم بغصن الزيتون وبندقيّة الثائر. فلا تُسقطوا الغصن الأخضر من يدي. لاحقاً أسقطوا الغصن وقتلوا الختيار واستباحوا فلسطين. ثمّ جاءهم من يثأر في القاعة ذاتها وعلى المنبر نفسه.
لا شيء على الإطلاق أجمل من مشهديّة التصفيق العاصف الذي أطلقه الوفد السعوديّ في قاعة الأمم المتّحدة عقب اعتراف الرئيس الفرنسيّ بدولة فلسطين. كانت لغة جسدهم. حركة يدهم. عيونهم المضيئة. تشي بالنشوة والانتصار. حالهم في ذلك حال كلّ عربيّ وكلّ مسلم وكلّ حرّ يدبّ فوق هذه الأرض.
هو انتقام مؤجّل. ثأر لا بدّ منه. حمله محمّد بن سلمان على كتفيه. وسار به نحو أرفع منبر على وجه المعمورة. أراده احتفالاً متكامل الأوصاف. تظاهرة كونيّة غير مسبوقة. اعترافاً بالجملة على خطأ اقترفه العالم بل خطيئة. بريطانيا تقدّمت الركب بما يشبه الاعتذار التاريخيّ. أوروبا كلّها في مركب واحد. لم يحدث إجماع مماثل منذ عرفت البشرية طريقها إلى العقل والمنطق والتسويات. ثمّة حدث جلل يستحقّ التصفيق العاصف.
ليلة مضيئة من التّاريخ
ثمّة غائب واحد عن القاعة. وهو ربّما الحاضر الأوّل. ياسر عرفات. أبو عمّار. ختيار فلسطين وأيقونتها ووجهها الأكمل والأجمل والأحلى. حضر بكامل أناقته. بكوفيّته التي صارت وجه القضيّة ورمزها وهويّتها. حضر ليصفّق إلى جانب الوفد السعوديّ. وإلى جانب العالم أجمع. وكأنّه استكمال لخطابه التاريخيّ تحت القبّة ذاتها. الفارق أنّه كان يومها وحيداً. الآن معه الدنيا. أمّا الغصن فقد استحال شجرة. والشجرة صارت غابة مترامية الأطراف.
كانت ليلة مضيئة من التاريخ. حصل فيها التسليم والتسلّم. الختيار وضع الكوفيّة على رأس محمّد بن سلمان وذهب ليستريح
كانت ليلة مضيئة من التاريخ. حصل فيها التسليم والتسلّم. الختيار وضع الكوفيّة على رأس محمّد بن سلمان وذهب ليستريح. مئة عام من القلق. مئة عام من الوجع. مئة عام من النضال والقتال والترحال والغربة والنفي في غياهب الأرض. الآن سلّم الرجل الأمانة واستراح. لا خشية لديه ولا خوف. هذا الحقّ هو الحقّ المطلق. والحقّ ينتصر مهما طال الظلم أو استطال الزمان. وهذا الحقّ صار خلفه من يطالب. لذلك لا يموت ولن يموت.

كلّ إنجازات الرياض. كلّها يعني كلّها. منذ الوحدة والدولة والقيامة. إلى الرؤية والدور والمشروع. كلّها يعني كلّها. وضعها محمّد بن سلمان في كفّة. وهذا الانتصار المستحقّ في الأخرى. لم يخضع لاستفزاز ولا ترغيب ولا ترهيب. بادرته تل أبيب بقصف موصوف في حديقته القطريّة. بادره نتنياهو برسائل تحت الطاولة وفوقها. وضعت إسرائيل كلَّ ثقلها. وأميركا بعضاً من ثقلها. لكسر هذا التصميم. فما استطاعت.
تصفيق الوفد هو الردّ المزلزل بوجه كلّ الضغوط. هو الردّ الناجز والمؤكّد على إسرائيل الكبرى التي خالت أنّ سياسات طحن العظام قد تؤتي أُكُلها مع أولئك الذين حوّلوا جزيرة العرب إلى قلب العالم.
رفعاً فوق الرّؤوس
بالأمس استعاد محمّد بن سلمان مع الرئيس الفرنسي كوفيّة فلسطين من رقاب خاطفيها. أعاد وضع القضيّة الأمّ تحت مجهر العالم. وأثبت للقاصي والداني أنّ السياسة هي فنّ الممكن وفكفكة المستحيل. وأنّ الدبلوماسيّة أقوى من الرصاصة ومن المدفع ومن الطائرات التي تستطيع أن تُساوي العواصم بالأرض. لكنّها لا تستطيع أن تبني بيتاً أو تصنع دفئاً أو تُديم استقراراً.
إقرأ أيضاً: بن سلمان يستعيد علم فلسطين من طهران..
كنّا كلّما لبس أحدهم الكوفيّة في أقاصي السويد أو رسمها على الجدران. نفتقده ونفتقد وجهه وحضوره الشهيّ. ثمّ ما نلبث أن نشعر أنّه بيننا ومعنا بل ويتقدّم كلّ الصفوف. الآن صارت الكوفيّة في كلّ مكان. حملها العرب وتأبّطوها ورفعوها رفعاً فوق الرؤوس. ظلّ الوفد السعوديّ يُصفّق لك أمام الأمم حتّى احمرّت أيديهم. ولا شكّ أنّك كنت تُصفّق معهم ولهم من عليائك.
لمتابعة الكاتب على X:
