يرتكز الخطاب السياسي للسلطة الفلسطينية على جملة محدّدات رئيسة جرت صياغتها والتوافق عليها مع الدول العربية الفاعلة في المنطقة، وتحديداً المملكة العربيّة السعوديّة والاتّحاد الأوروبيّ، وخصوصاً فرنسا، وبات لزاماً على الرئيس محمود عبّاس إدراج تلك المحدّدات في أيّ خطاب له، على غرار خطابه في الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة ومؤتمر حلّ الدولتين في نيويورك.
تعكس تلك المحدّدات استجابة السلطة الفلسطينية للضغوط العربية والأوروبيّة عليها، وتبدو بمنزلة خريطة طريق تعتقد السلطة أنّ الالتزام بها سيضمن لها المحافظة على كينونتها السياسية وقد تمهّد لعودتها إلى قطاع غزّة في ما يُعرف باليوم التالي للحرب.
يرتكز الخطاب السياسي للسلطة الفلسطينية على جملة محدّدات رئيسة جرت صياغتها والتوافق عليها مع الدول العربية الفاعلة في المنطقة
الرّياض في المقدّمة
تتمثّل المحدّدات التي باتت ركيزة الخطاب السياسي للسلطة في:
- أوّلاً: الاستعداد لتولّي المسؤوليّة الكاملة في قطاع غزّة بدعم عربي ودولي.
- ثانياً: إدانة حركة حماس وما قامت به في 7 أكتوبر/تشرين الأوّل وعدم السماح لها بأيّ دور مستقبليّ في الحكم وإلزامها بتسليم سلاحها مع بقيّة الفصائل للسلطة الفلسطينية.
- ثالثاً: الاستعداد للذهاب للانتخابات الرئاسيّة والبرلمانية خلال عام بعد انتهاء الحرب.
- رابعاً: إخضاع المناهج التعليميّة لتعديلات خلال عامين.
- خامساً: إلغاء نظام المدفوعات الماليّة لعائلات الأسرى والشهداء بنظام آخر.
- سادساً: تشكيل لجنة رسمية لصياغة الدستور المؤقّت تُنهي أعمالها خلال ثلاثة شهور.
تلعب السعوديّة دور العرّاب السياسي والاقتصادي للسلطة الفلسطينية، وقد برز ذلك جليّاً في رئاسة الرياض إلى جانب باريس مؤتمر تسوية القضيّة الفلسطينية، الذي عُقد وسط غياب المسؤولين الفلسطينيّين الذين رفضت إدارة ترامب منحهم تأشيرات دخول إلى أراضيها.
عُقد المؤتمر نتيجة حراك سياسي دبلوماسي سعوديّ – فرنسيّ انطلق منذ شهور وترافق مع سيل من الاعترافات الدوليّة بدولة فلسطين مثل فرنسا وبريطانيا والبرتغال.
قال عضو اللجنة التنفيذية لمنظّمة التحرير د. أحمد مجدلاني لـ”أساس” إنّ ثقة السلطة الفلسطينيّة بدور السعوديّة ليست جديدة
أزمة مستفحلة
تعمل السلطة الفلسطينية مع السعوديّة وفق خارطة طريق جرت صياغتها لتحقيق هدفين هما:
- أوّلاً: إنهاء الحرب الإسرائيليّة على غزّة وتأمين ما يُعرف بـ”اليوم التالي”، بما يضمن وقفاً دائماً لإطلاق النار وتخفيف المعاناة الإنسانيّة.
- ثانياً: تمكين دولة فلسطين ذات السيادة والقابلة للحياة اقتصاديّاً لتعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل في سلام وأمن ولإنهاء الصراع المستمرّ منذ عقود وتفعيل إعلان نيويورك والقرارات الدولية ذات الصلة ووضع آليّات واضحة لمتابعة التنفيذ على أرض الواقع.
أمّا آليّات العمل للوصول إلى ذلك فقد تلخّصت بالمخرجات الختاميّة لمؤتمر حلّ الدولتين التي وردت في 15 بنداً وربطت تحقيق الدولة الفلسطينية المستقلّة بتنفيذ “الإصلاحات” التي أعلنتها السلطة الفلسطينية، إلى جانب مسار اقتصاديّ يتمثّل في إطلاق تحالف ماليّ عاجل لدعم موازنة السلطة.
بالتوازي مع الجهد السياسي والدبلوماسي، تتعمّق أزمة السلطة الفلسطينية الماليّة جرّاء السياسات الإسرائيلية التي جعلتها غير قادرة على الإيفاء بالتزاماتها وواجباتها، الأمر الذي شكّل قلقاً سياسيّاً وأمنيّاً من مغبّة انهيار السلطة أو ضعفها بسبب تلك الأزمة وما يمكن أن يترتّب عليها من تداعيات في المنطقة.
لا يخفى على أحد واقع السلطة الفلسطينية الماليّ، بل إنّ الدول العربيّة والاتّحاد الأوروبيّ على اطّلاع كامل، لكنّ التحرّك بخطّة إنقاذ ماليّ لها كانت مرهونة على ما يبدو بحراك سياسيّ ودبلوماسيّ وبتقديم السلطة جملة التزامات عليها القيام بها، ويبدو أنّ هذا ما تمّ في النهاية مع إعلان السعودية في 25 أيلول تأسيس تحالف دوليّ طارئ لتمويل السلطة الفلسطينية.
أعلنت السعوديّة أنّها ستموّل السلطة بنحو 90 مليون دولار، وأعلنت إسبانيا تخصيص 50 مليون دولار، وألمانيا 30 مليون يورو، والنرويج 4 ملايين دولار، في ظلّ توقّعات أن تساهم دول أخرى خلال الفترة المقبلة.
رأست النرويج منذ عقود مجموعة المانحين الدوليّين للفلسطينيّين المعروفة باسم “لجنة الاتّصال المخصّصة”، وأكّدت في 26 أيلول أنّ مجموعة من الدول التي تقدّم مساعدات ماليّة للسلطة وافقت على تقديم حزمة طارئة لزيادة الدعم بعد إعلان السعوديّة وإسبانيا وبريطانيا واليابان وفرنسا دعمها للمبادرة.
لفت مجدلاني إلى أنّ السعودية تقود تحالفاً دوليّاً لدعم السلطة ماليّاً ومنع انهيارها بهدف توفير دعم ماليّ لمدّة ستّة أشهر بقيمة 1.2 مليار دولار
ثقة كبيرة
يأتي التحرّك السعوديّ لدعم السلطة اقتصاديّاً استجابةً لطلب تقدّمت به الحكومة الفلسطينيّة لاجتماع المانحين الذي عُقد في نيويورك في 25 أيلول، طالبت فيه بتقديم غطاء ماليّ لها بمعدّل 200 مليون دولار شهريّاً لمدّة 6 أشهر لتمكينها من دفع رواتب الموظّفين وتقديم الخدمات تعويضاً عن الأموال التي تحتجزها إسرائيل.
قال عضو اللجنة التنفيذية لمنظّمة التحرير د. أحمد مجدلاني لـ”أساس” إنّ ثقة السلطة الفلسطينيّة بدور السعوديّة ليست جديدة، وتعزّزت الثقة بدورها الإقليمي والدوليّ بفعل عوامل إقليميّة، أهمّها تراجع أدوار لاعبين إقليميّين في المنطقة، وبروز دور المملكة كلاعب إقليميّ ودوليّ بما تملك من أوراق قوّة وقدرة على إدارة علاقات سياسيّة تؤهّلها للعب هذا الدور المستند إلى قوّة اقتصاديّة وجيوستراتيجيّة.
أضاف مجدلاني أنّ السعوديّة كان موقفها واضحاً بربطها أيّ إمكان للتقدّم نحو سلام إقليميّ بإقامة دولة فلسطينية مستقلّة، وتجلّى هذا الموقف السياسيّ في المؤتمر الدوليّ للسلام وحلّ الدولتين، الذي نظّمته وحشدت لنجاحه من خلال القيادة المشتركة مع فرنسا.
لفت مجدلاني إلى أنّ السعودية تقود تحالفاً دوليّاً لدعم السلطة ماليّاً ومنع انهيارها بهدف توفير دعم ماليّ لمدّة ستّة أشهر بقيمة 1.2 مليار دولار تشكّل شبكة أمان وإنقاذ للسلطة.
إقرأ أيضاً: حل الدولتين: بريطانيا تُنقذ إسرائيل من نفسها
بدا مجدلاني متفائلاً بإمكان تحقيق هذا التحالف لهدفه وتوفير هذه المساعدة، لافتاً إلى أنّ القيادة الفلسطينية على مستوى عالٍ من التنسيق والتشاور مع القيادة السعوديّة، وأنّ هذه العلاقة المنفتحة هي نتاج التنسيق الدائم الذي “أظهر أنّنا متّفقون دائماً ونعمل وفق خارطة الطريق التي أقرّها المؤتمر الدولي للسلام وحلّ الدولتين وإعلان نيويورك”.
تابع مجدلاني: “القضيّة الفلسطينيّة باتت على جدول الأعمال الدوليّة، واستطعنا من خلال دعم الأشقّاء، وتحديداً السعوديّة، من وضع القضيّة على جدول الأعمال الدولي، حتّى باتت الدورة الـ 80 للجمعيّة العامّة هي دورة فلسطين”.
