التّراجيديا السّودانيّة تكتمل

مدة القراءة 6 د

سنتان ونصف سنة مضت على النكبة السودانيّة. هذه الحرب المنسيّة لم تعد نزاعاً عسكريّاً أو أزمة سياسيّة، بل تحوّلت إلى صراع صفريّ إلغائيّ يهدّد بقاء الدولة والمجتمع معاً. استمرار هذا النزيف يعني مزيداً من التفكّك والدمار، ليس في السودان وحده، بل في كامل المنطقة.

بلد شاسع المساحة تحوّل إلى ساحة مفتوحة للمصالح الذاتيّة والتنافس الجيوسياسيّ، وصار أهله أرقاماً صمّاء في تقارير النزوح والتهجير، وأرضه ملعباً لمعارك الانتقام. القتل والاغتصاب لم يعودا حالات استثنائية، بل أصبحا مشهداً يوميّاً لم يعرفه السودان في تاريخه الحديث.

منذ محاولة الانقلاب التي قادتها قوّات “الدعم السريع” على الجيش، ثمّ محاولة الاثنين معاً على الحكم المدني، صار التوحّش هو القاعدة. صور الدمار في الجزيرة، والمجاعة في الفاشر ونيالا، والإبادة الجماعية في الجنينة، والعنف الجنسيّ والإثني في دارفور وكردفان، تكشف حجم الكارثة. في الخرطوم وحدها قُتل أكثر من 60 ألفاً، وفي مذبحة المساليت 15 ألفاً. ملايين شُرّدوا: 14 مليوناً داخل السودان، و4 ملايين خارجه. الأمم المتّحدة تصف ما يجري بأنّه أكبر كارثة إنسانية في العالم.

ينظر “داعش” إلى السودان كمنصّة للاقتراب من البحر الأحمر ومضيق باب المندب، في ظلّ انحسار نفوذه في اليمن والصومال

فنّ التّجويع

حوّلت الميليشيات سياسات التجويع إلى “فنّ” عبر منع المساعدات وقطع الإمدادات وتسميم المياه وحرق المحاصيل. صارت النساء والأطفال هدفاً يوميّاً للتعذيب والاغتصاب. انهار الاقتصاد، تفلّت التضخّم، فقدت العملة قيمتها، واجتاحت البطالة والفقر البلاد. دفع هذا الواقع آلاف الشباب نحو الميليشيات طلباً للرزق، إذ بات السلاح وسيلة البقاء الوحيدة.

ماتت السياسة وانتعشت العسكرة، وتحوّلت قوى المجتمع المدني إلى أدوات في مشاريع إقليمية ودولية تذكي الحرب. غاب الخطاب الوطني، وصارت السياسة صدى لمصالح الخارج وإعلامه. لم تعد الشرعيّة تُقاس بالشعارات ولا بالقضايا، بل بالقدرة على كسب لقمة العيش للموالين.

توفّر القوى الإقليمية أسباب الحرب والسلاح للمتقاتلين، مقابل نهب الذهب والموارد، والسيطرة على السواحل، ومحاولة تطويق مصر جنوباً. ومع تآكل سلطة الحكومة المركزية، تتقلّص سيطرتها إلى جيوب معزولة، فيما تُترك مساحات شاسعة للميليشيات والقبائل أو للفراغ الأمنيّ. تحوّلت الحدود إلى ممرّات للتهريب والسلاح والمرتزقة.

الهلال الدّاعشيّ

على الرغم من أنّ السودان غائب عن الإعلام العالمي، فإنّه حاضر بقوّة في أجندة التنظيمات الإرهابية. فبعد “القاعدة”، يطلّ تنظيم “داعش” مستغلّاً الفوضى، مستفيداً من غياب الدولة وانهيار الأمن، ومنتهجاً استراتيجية “التموضع المتدرّج” والتعبئة والتجنيد.

برز حضور “داعش” في قلب الفوضى السودانيّة، منذ عام 2019، بعدما كان بعض مقاتليه يشكّلون أحد أعمدة قوّته في ليبيا خلال ذروة تمدّده عام 2016. وعلى الرغم من محاولات السلطات السودانيّة تفكيك هذه الشبكة عبر حملات دهم واعتقالات متفرّقة، كما جرى في أيلول وتشرين الأوّل 2021، فإنّ البنية الأساسية للتنظيم داخل البلاد ظلّت متماسكة، وإن بدت خاملة عسكريّاً، وتحوّلت إلى مركز تمويل وشراء وتوفير الدعم اللوجستي لفروع أخرى في القارّة.

أطلق زعيم التنظيم الحاليّ، أبو حفص الهاشميّ القرشيّ، “استراتيجية الأرض السوداء” لجعل إفريقيا محور العمليّات في 2025، وأسند الملفّ السودانيّ إلى أبي بكر العراقي الذي أسّس نواة تنظيمية جديدة في الداخل. تشير تقديرات أخرى إلى وجود 150–300 عنصر داعشيّ في السودان، يُنظر إليه كحلقة وصل ضمن مشروع “الدائرة الداعشيّة الإفريقيّة”.

بحسب مركز الدراسات في “الأهرام”، أنشأ التنظيم خمسة أفرع تشكّل ما يمكن تسميته بــ”الهلال الداعشي”، الذي يبدأ من منطقة الساحل الإفريقي ويمتدّ إلى غرب إفريقيا مروراً بوسط إفريقيا وموزمبيق وصولاً إلى الصومال، على أن يكون السودان نقطة “غلق الدائرة” ومحوراً رئيساً للربط بين الأفرع الخمسة في إفريقيا.

بحسب مركز الدراسات في “الأهرام”، أنشأ التنظيم خمسة أفرع تشكّل ما يمكن تسميته بــ”الهلال الداعشي”، الذي يبدأ من منطقة الساحل الإفريقي ويمتدّ إلى غرب إفريقيا

كشف تقرير أمميّ عن تدريب مسلّحين من شمال إفريقيا في السودان لإعادة نشرهم في المنطقة، فيما دعت صحيفة التنظيم “النبأ” إلى “الجهاد في السودان” لإحياء سرديّاته الأيديولوجيّة حول “الأمّة” و”إزالة الحدود”، مقدّمةً الصراع السوداني كمعركة كبرى بين “الحقّ” و”الباطل”.

يُسقط هذا التوصيف عن طرفَي النزاع الجيش بقيادة عبدالفتّاح البرهان وقوّات “الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) أيّ شرعية دينية أو سياسية في نظره، ويفتح الباب أمام تصوير السودان أرضاً ينبغي أن يفد إليها أعضاء التنظيم من دول الجوار، في تكرار لنمط تمدّده في مناطق الهشاشة الأمنيّة كسيناء وليبيا ومنطقة الساحل.

التّنافس مع “القاعدة

“داعش” ليس وحده في هذا المشهد. فـ”القاعدة” يحاول استعادة حضوره القديم في السودان منذ أن اتّخذ الخرطوم ملاذاً في التسعينيّات. في 2022 صدر كتاب لأبي حذيفة السوداني، أحد قيادات “القاعدة”، دعا فيه صراحة إلى تنفيذ عمليّات إرهابية وإنشاء كيانات موالية داخل السودان.

يمتدّ الإرث التنظيميّ لـ”القاعدة” في السودان لعقود: من خليّة سلامة عام 2007 إلى خليّة محمية الدندر عام 2012، مروراً بتنظيمات مثل “أنصار التوحيد” و”القاعدة في بلاد النيلَين”. هذه الخبرة تمنحه معرفة دقيقة بالجغرافيا والمجتمع، لكنّ “داعش” يحتفظ بشبكة أكثر علنيّة ونشاطاً، وهو ما يجعل السودان ساحة محتملة لصراع نفوذ بين التنظيمين.

إقرأ أيضاً: الحكومة السّوريّة تحشُد… هل تقتحم مناطق “قسد”؟

القلق على الملاحة الدّوليّة

ينظر “داعش” إلى السودان كمنصّة للاقتراب من البحر الأحمر ومضيق باب المندب، في ظلّ انحسار نفوذه في اليمن والصومال، وهو ما يجعله تهديداً مباشراً للملاحة الدولية. لا يهدّد هذا التمدّد السودان وحده، بل يمتدّ خطره إلى دول الجوار، حيث يسعى التنظيم إلى تنفيذ عمليّات عابرة للحدود تستهدف إعادة تشكيل الخريطة الأمنيّة في الإقليم. يُقلق هذا الخطر:

  • الولايات المتّحدة: لحماية حرّية الملاحة وإمدادات الطاقة.
  • الصين: لاستقرار استثماراتها في الموانئ وخطوط التجارة.
  • روسيا التي تراقب الخطر لكنّها قد تستغلّ الفوضى لتعزيز نفوذها.

أمّا دول المنطقة فتخشى تحوُّل السودان إلى قاعدة إرهابية عابرة للحدود، لا تقف عند حدود القرن الإفريقي ودول الساحل، بل تصل إلى تهديد الملاحة الدوليّة في البحر الأحمر، وهذا ما قد يدفعها إلى تنسيق أمنيّ واستخباريّ وعسكريّ لمنع ترسّخ “داعش” و”القاعدة” في قلب واحدة من أكثر المناطق حساسيّة في العالم الآن.

مواضيع ذات صلة

عهد أحمد الشرع يبدأ من واشنطن…

ثمة بداية جديدة في سوريا تمثلها زيارة أحمد الشرع، لواشنطن واستقبال الرئيس دونالد ترامب له في البيت الأبيض. تحّمت عقدة العلاقة بالولايات المتحدة بكلّ الأنظمة…

السّعوديّة طوق النّجاة للبنان

ثلاث ثوابت تحكم علاقة المملكة العربيّة السعوديّة بلبنان: الحرص على وحدة لبنان وسلامته وازدهاره. التعامل مع لبنان على قاعدة المؤسّسات والشراكات السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة. التعامل…

“الحزب” يريد تطويع “الطّائف”

ثمّة خلط في المصطلحات، بين حقّ المقاومة، وبين سلاح المقاومة. يستند “الحزب” إلى الأوّل، لتبرير التمسّك بالثاني. الفرق نوعيّ بين الأمرين. حقّ الدفاع عن النفس،…

أسعد الشّيباني… المُمسك بشعرة معاوية

إلى نادي وزراء الخارجيّة في العالم انضمّ عضو جديد قبل عامٍ إلّا أيّاماً، اسمه أسعد حسن الشيباني. ملأ مقعده حتّى ليخيّل للمتابع أنّه دائم فيه،…