غزّة التي صارت أيقونةً للجروح المفتوحة، لم تعد سؤالاً عن جغرافيا محاصَرة فقط، بل صارت مرآةً لما لا تريده إسرائيل أكثر ممّا هي مرآة لما تريده. حين يُطرح خيار عودة السلطة الفلسطينية إلى إدارة القطاع، تهتزّ الحسابات الإسرائيلية من جذورها، وكأنّ تل أبيب لا تخشى من حضور سلطةٍ ضعيفةٍ بقدر ما تخشى من شبح الاعتراف السياسي الذي يرافقها.
إسرائيل، منذ أوسلو حتّى اليوم، اعتادت إدارة الصراع لا إنهاءه، وتعطيل الولادة السياسية لا تبنّيها. لذلك عودة السلطة إلى غزّة تعني ما لا تطيقه عقيدتها: إعادة وصل ما انقطع بين الضفّة والقطاع، وترميم فكرة الدولة التي أمضت عقوداً في محاولات نسفها.
إنّ السماح للسلطة الفلسطينية بالعودة إلى غزّة ليس إجراءً إداريّاً، بل هو حدث سياسي يتجاوز حدود القطاع الضيّق. عودة السلطة تعني أنّ ثنائيّة الضفّة وغزّة، التي صنعتها إسرائيل بعناية وحافظت عليها لتكون أداة لتفكيك الكيان الفلسطيني، ستبدأ بالتآكل. وحين يتوحّد الجناحان، حتّى لو تحت سلطة باهتة، تعود فكرة “الكيان الواحد” إلى الطاولة من جديد.
تحمل هذه العودة في طيّاتها استعادةً للشرعية الفلسطينية في نظر المجتمع الدولي، وهو ما تحاول إسرائيل منعه بشتّى الطرق. فالمعادلة الإسرائيلية تقوم على إضعاف السلطة بما يكفي لإبقائها عاجزة، لكنّها في الوقت ذاته لا تريد أن ترى غزّة تُدار باسمها، لأنّ ذلك ينعش أحلام الدولة الفلسطينية الموحّدة.
إسرائيل، منذ أوسلو حتّى اليوم، اعتادت إدارة الصراع لا إنهاءه، وتعطيل الولادة السياسية لا تبنّيها
التّكامل مع الضّفّة
تدرك إسرائيل أنّ السماح للسلطة بالسيطرة على غزّة سيقوّي الموقف التفاوضي الفلسطيني، ويعيد إلى الواجهة خطاب “الدولة” بدل خطاب “المناطق المنفصلة”. وتخشى من أن يتحوّل القطاع إلى منصّة سياسية للسلطة يمكن أن تتكامل مع الضفّة، وتعيد فتح ملفّات المفاوضات المجمّدة. وهذا بحدّ ذاته يناقض المنهج الإسرائيلي القائم على تأبيد المؤقّت، وتوسيع الفراغ، وتجنّب أيّ صيغة نهائية قد تُلزمها بتنازلات لا تريد أن تقدّمها. لذلك ليست عودة السلطة إلى غزّة شأناً داخليّاً فلسطينياً بالنسبة لإسرائيل، بل تهديد استراتيجيّ لجوهر مشروعها القائم على التقطيع الجغرافيّ والسياسيّ.
البعد الأمنيّ
هناك أيضاً البعد الأمني، وهو الذي لا ينفصل عن البعد السياسي. فالسلطة الفلسطينية، على الرغم من كلّ ضعفها وتآكل مشروعها الداخليّ، تظلّ سلطةً مُعترفاً بها دوليّاً، لها خطابها ومؤسّساتها وشرعيّتها التي لا يمكن شطبها بسهولة. ستضع عودة هذه السلطة إلى غزّة إسرائيلَ أمام شريك رسميّ لا يمكن التعامل معه بمرونة العدوّ التقليدي.
مع “حماس” تستطيع تل أبيب أن تخوض الحروب الدوريّة وتعيد “تقليم العشب” كلّ بضع سنوات، وأمّا مع السلطة فهي مجبرة على الاعتراف بالبعد السياسي للصراع، وهو ما تحاول منذ عقود دفنه تحت ركام “الأمن”. ولأنّ إسرائيل تُجيد لغة القوّة أكثر ممّا تُجيد لغة السياسة، فهي تفضّل أن تبقى غزّة خارج يد السلطة، بحيث تظلّ المشكلة عسكريّة قابلة للإدارة بالنار، لا سياسية قابلة للتفاوض.
تخشى إسرائيل أيضاً، بوعيها العميق لما تعنيه الرموز، من الصورة التي قد تنتجها عودة السلطة. فالعالم، مهما بدا غارقاً في صفقاته، يحتاج إلى عنوان يتعامل معه. وحين تكون السلطة الفلسطينية هي العنوان في غزّة كما في الضفّة، سيعود العالم إلى مخاطبة الفلسطينيّين بصفتهم “شعباً واحداً تحت سلطة واحدة”.
السماح للسلطة الفلسطينية بالعودة إلى غزّة ليس إجراءً إداريّاً، بل هو حدث سياسي يتجاوز حدود القطاع الضيّق
هذه الصورة، التي تبدو بديهية، هي أخطر ما تخشاه إسرائيل، لأنّها تزيل من أمامها ذريعة الانقسام التي طالما استخدمتها للهروب من أيّ التزام سياسي. لذلك تفضّل استمرار الانقسام، حتّى لو كان الثمن المزيد من الدم والمعاناة، على أن ترى السلطة تلتقط خيط الشرعية من جديد.
إحياء مشروع الدّولتين
ليس من المبالغة القول إنّ إسرائيل ترى في عودة السلطة إلى غزّة إحياءً لمشروع لم يعد جزءاً من حساباتها: مشروع الدولتين. فوجود سلطة فلسطينية في الضفّة وحدها يسمح لإسرائيل بأن تعيش في وهم أنّ هذا كيان ناقص لا يملك مقوّمات الدولة. أمّا إذا عادت إلى غزّة، فإنّ الخطاب الدوليّ سيتغيّر، وسيعود الضغط على إسرائيل للقبول بحلّ سياسي.

من هنا يمكن فهم تمسّكها بخيار “الإدارة من بعيد”: حصار يُدار عن بعد، وتمويل دوليّ لإعادة الإعمار، وتفاهمات أمنيّة عبر الوسطاء، من دون أن يُسمح للسلطة بالاقتراب من المشهد. فالفوضى، مهما كانت مكلفة، تظلّ بالنسبة لإسرائيل أقلّ خطراً من وجود سلطة موحّدة تعيد الروح لفكرة الدولة.
البعد الإسرائيليّ
ثمّة بعد داخليّ لا يقلّ أهمّية، وهو البعد الإسرائيلي نفسه. فعودة السلطة إلى غزّة ستجعل إسرائيل تفقد ورقتها الأهمّ في الداخل: ورقة “العدوّ القابل للتوظيف”. مع “حماس” تستطيع الحكومات الإسرائيلية أن تحشد ناخبيها خلف خطاب أمنيّ يبرّر كلّ شيء: القصف، الحصار، الجدار. لكن مع سلطة تُدير غزّة، سيكون المشهد مختلفاً.
لن يكون العدوّ هنا “تنظيماً مسلّحاً”، بل كيان سياسي مُعترف به، وحينها ستصبح إسرائيل هي الطرف الذي يرفض التسوية، لا الطرف الذي “يحارب الإرهاب”.
ليست عودة السلطة إلى غزّة شأناً داخليّاً فلسطينياً بالنسبة لإسرائيل، بل تهديد استراتيجيّ لجوهر مشروعها القائم على التقطيع الجغرافيّ والسياسيّ
قد يبدو غريباً أن ترفض إسرائيل سلطة ضعيفة فقدت الكثير من أوراقها، لكنّ الضعف هنا هو ما يجعلها خطرة. فسلطة بلا قوّة عسكرية كبيرة، وبلا أوراق ضغط، وبلا مشروع بديل سوى “التفاوض”، هي سلطة يمكن للعالم أن يحتضنها كخيار عقلانيّ وحيد. وهذا ما تخشاه إسرائيل بالضبط، لأنّ العالم إذا أعاد تبنّي السلطة فلن يكون أمامها سوى العودة إلى المسار السياسي، وهو ما لم تعد مستعدّة له بعدما استثمرت عقوداً في بناء واقع استيطانيّ يحسم أيّ تفاوض مسبقاً.
لهذا كلّه، الإجابة عن سؤال: لماذا لا تريد إسرائيل السلطة الفلسطينية في غزّة؟ تكمن في أنّ هذه العودة ستفتح نافذة كانت قد أُغلقت: نافذة الدولة الفلسطينية. إسرائيل تفضّل الفوضى على النظام، والخصم المسلّح على الشريك السياسي، والانقسام على الوحدة.
إقرأ أيضاً: الأردن يواجه “إسرائيل الكبرى”: إسقاط فلسطين يُسقط عمّان
رفض الاعتراف بالكيان
في النهاية، ليس رفض إسرائيل لعودة السلطة رفضاً لشخص أو مؤسّسة، بل هو رفض للاعتراف بوجود كيان فلسطيني يمكن أن يطالب بالحرّية والسيادة باسم شعب كامل. ليست غزّة هنا شريطاً ساحليّاً فحسب، بل هي حجر الزاوية في معمار الدولة المؤجّلة. ومن أجل أن تبقى هذه الدولة وهماً، تفضّل إسرائيل أن تُبقي غزّة معزولة، مشغولة بجراحها، بعيدة عن يد السلطة، قريبة فقط من جدار السجن. إنها لعبة الزمن المفتوح: إدارة أزمة لا حلها، وصناعة فراغ لا ملئه، لأن السلطة حين تعود، يعود معها السؤال الذي تتهرب منه إسرائيل منذ البداية: أي مستقبل يمكن أن يُبنى لشعب لا يزال يحلم بدولته؟
* كاتب وصحافي أردنيّ.
