في أيلول الماضي، صدرت دراسة جديدة عن ابن خلدون، بإشكاليّة مختلفة، وطرح جديد، تحت عنوان: “ما لم يقُله ابن خلدون. قانون الفراغ في تفسير قيام الدول والجماعات وانهيارها”، للباحث المغربي كمال القصير. وهي دراسة تجمع بين التنظير الفكري والاستقراء التاريخي.
يبني القصير على ما أنجزه ابن خلدون، لكنّه وهو يؤكّد أنّه يستكمل نظريّة العصبيّة، يزاحم النظريّة الخلدونيّة، ويمنح قانون الفراغ قوّة تفسيرية تفوق قوّة العصبيّة، بل إنّه يجعل الفراغ أحد محرّكات التغيير العالمي. وفي سبيل ذلك، يستنطق الباحث وقائع التاريخ الإسلامي دولةً دولةً لإثبات دور الفراغ في التغيير، ويفحص الأحداث المعاصرة الجارية ومآلاتها المستقبلية.
في زمن الفراغ النسبي الذي يعيشه العالم العربي عموماً، يحاول المفكّر المغربي كمال القصير ملء ما يرى أنّه ثغرة أو فجوة في البناء النظريّ لابن خلدون، من خلال طرح “قانون الفراغ”، الذي لا يستكمل فقط ما طرحه صاحب المقدّمة من عصبيّة قَبَليّة تصنع مصائر الدول صعوداً وسقوطاً، بل إنّ الفراغ الفكري والأيديولوجيّ، الذي يزجّ به القصير لإثبات دوره الحاسم في صناعة الدول والجماعات، ينافس جدّيّاً عصبيّة ابن خلدون، مع أنّه يعتمد عليها، فيجعلها في الدرجة الثانية.
الفراغ هو الشرط الضروري لنجاح العصبيّة. فإذا ما قامت عصبيّة بدويّة مثلاً ولم تجد ضعفاً أو تراخياً في الدولة القائمة، فلا يمكن أن تنجح تلك العصبيّة في تأسيس دولة جديدة، كما يقول ابن خلدون، والفراغ بنظره هو فراغ مادّيّ، لتراجع قوّة الجند. لكنّ للباحث رأياً مختلفاً، وهو ما يعدّل جوهر النظريّة الخلدونيّة.
لقد انهمك المؤرّخون والمفكّرون في الغرب أوّلاً وفي الشرق لاحقاً بتمحيص آراء ابن خلدون، وتأويل مفهوم العصبيّة وما يرادفها، ورصد دورها الاجتماعي والسياسي. وذلك مذ أعاد الغرب اكتشاف مقدّمة تاريخه “كتاب العِبَر وديوان المبتدأ والخبر“، وترجمتها إلى اللغات الأوروبية قبل أكثر من قرنين.
في أيلول الماضي، صدرت دراسة جديدة عن ابن خلدون، بإشكاليّة مختلفة، وطرح جديد، تحت عنوان: “ما لم يقُله ابن خلدون. قانون الفراغ في تفسير قيام الدول والجماعات وانهيارها”
نظريّة موازية
منذ ذلك الحين، لا تتوقّف الدراسات تأصيلاً، ولا النظرات تأمّلاً، وهي تحوم حول آرائه، لِما تحمله من جاذبيّة لا تُقاوَم، على الرغم من ظهور كتابات غربية عدّة تهتمّ بما اهتمّ به ابن خلدون قبل أكثر من ستّة قرون، وتطرح أسباباً جديدة لسقوط الإمبراطوريّات وتراجعها. إلّا أنّ ما تتميّز به دراسة القصير أنها ترتقي إلى أكثر من محاولة تأويل ابن خلدون، أو البناء على ما قد يكون ألمح إليه، ولم يقُل به، لتقديم نظريّة موازية.
الفراغ في نظر كمال القصير هو شرط ضروريّ لعمل العصبيّة، إذ لا شُغل لها من دون فراغ يسبقها، بل إنّ الفراغ لا العصبيّة هو القوّة الدافعة الحقيقية لصناعة التاريخ. والفراغ المقصود هنا، ليس فراغ العدم، كما قد يُتبادَر إلى الذهن، بل نقطة قوّة من الطاقة الكامنة. وعليه، فإن الفراغ السلطويّ أو الجغرافيّ الذي تحدّث عنه مطوّلاً ابن خلدون في مقدّمته، ليس هو سبب انتصار عصبيّة صاعدة على عصبيّة منحسرة، بل هو الفراغ الفكري والأيديولوجيّ، أو تآكل المضمون بحسب تعبير الباحث.
يقول القصير في مقدّمة كتابه إنّه ليس المراد شرح أعمال ابن خلدون، أو تفسيرها، أو نقدها، بل ذكر ما لم يذكره، أو طاف حوله دون أن يُفصح عنه، وإنّ ما سعى إليه هو إكمال ما أنجزه ابن خلدون، وخصوصاً ما يتعلّق بمفهوم العصبيّة ودورها في قيام الدول والجماعات، وابن خلدون لم يذكر الجماعات على سبيل المثال.
لقد بات مفهوما العصبيّة والدعوة الدينيّة في حاجة إلى تطوير برأي القصير، وذلك بسبب ظهور أشكال سياسية واجتماعية مختلفة، إذ لم يتخيّل ابن خلدون ولا جيله من المؤرّخين يوماً أنّ الدول قد تقوم من دون دعوة دينية أو صيغة قَبَلية كما هي حال الدول العربية عندنا. وتوقّع أن يضيء ما سمّاه “قانون الفراغ” المساحة الرماديّة للبناء الخلدونيّ.
لقد بات مفهوما العصبيّة والدعوة الدينيّة في حاجة إلى تطوير برأي القصير، وذلك بسبب ظهور أشكال سياسية واجتماعية مختلفة
ملاحظات أساسيّة على قانون الفراغ
– أوّلاً: الفراغ الذي تحدّث عنه الباحث المغربي، هو العامل المجهول الذي لا تكتمل بدونه المعادلة الرياضية للعصبيّة في قيام الدول، والفراغ قوّة كامنة. والفكرة مستعارة من الفيزياء الكمّيّة الحديثة كما صرّح هو في كتابه. فكما أنّ الفراغ في الفيزياء يتضمّن جُسيمات صغيرة من الطاقة، فكذلك الفراغ في مجالات السياسة. والجُسيمات هنا هي الأفكار والأيديولوجيّات الجديدة التي تدفع بعصبيّة جديدة إلى احتلال الفراغ الناشئ عن تآكل المضامين السابقة. فليست العصبيّة هي محرّك التاريخ، بل هي وسيلة وحسب. انفجار العصبيّة يولّد فراغاً، والفراغ يستدعي عصبيّة أخرى لتأسيس دولة وجماعة، كانفجار النجوم الذي يخلّف الثقوب السود في عالم الأكوان، وهذه الثقوب تجذب كلّ شيء.
إقرأ أيضاً: دروز سوريا: سمو التكامل أو مغامرة الانفصال؟
– ثانياً: عند كمال القصير، تحتلّ الأفكار لا العصبيّة الدور الرئيسي في التغيير. وهو هنا يتبنّى نظريّة المفكّر الجزائري مالك بن نبي (توفّي عام 1973)، الذي وإن كان قد تأثّر بابن خلدون، فقد أنشأ معادلة مختلفة من الصعود والسقوط على المستوى الحضاري، تستند إلى الأفكار لا إلى العصبيّات. ويقرّ القصير بأنّ ابن خلدون يتحدّث عن عوامل مادّية في سياق التاريخ. بل إنّ الدعوة الدينية هي برأي ابن خلدون عنصر إضافي، ومعزِّز للتغيير، فيمنح العصبيّة زخماً أكبر.
– ثالثاً: سياق النظريّة افترض في البداية أن يكون الفراغ عمليّة انسيابيّة ناتجة عن تآكل المضمون الأيديولوجيّ لدولة ما، فيستدعي الفراغ أفكاراً جديدة، ويفسح المجال لعصبيّة جديدة، تأتي وتؤسّس دولة جديدة. لكنّه يُقحم عاملاً آخر هو الإفراغ. ومعناه أن تقوم عصبيّة جديدة بإفراغ الدولة المستهدفة من عناصر القوّة البشرية والثقافية فيها كي تحلّ محلّها. وهذا أمر إضافي يعيد السياق إلى مربّع ابن خلدون، فلا بدّ في هذه الحالة من عصبيّة جديدة تتولّى صنع الفراغ بنفسها لبدء تاريخ جديد.
لمتابعة الكاتب على X:
في الحلقة الثّانية: هل ينطبق قانون الفراغ على وقائع التّاريخ؟
