اغتيال السّيّد يُطوّق نفوذ إيران وينعش مرجعيّة النّجف (3/3)

مع اغتيال الأمين العامّ لـ”الحزب” السيّد حسن نصرالله وخليفته المفترض السيّد هاشم صفيّ الدين، سيتراجع التأثير الكبير للقبضة الإيرانية على “الحزب”، علاوة على تراجع نفوذ الحوزة الدينية في قُم، في مقابل تقدّم مدرسة النجف، لا سيما مع وصول الشيخ نعيم قاسم والنائب محمد رعد إلى مقدَّم الصفوف القيادية في “الحزب”.

 

شكّل انتخاب السيّد حسن نصرالله أميناً عامّاً لـ”الحزب”، بعد اغتيال سلفه السيّد عباس الموسوي، بداية لمرحلة مختلفة في حياة الحزب السياسية والعقائدية، يمكن وصفها بأنّها “التأسيس الثاني” لـ”الحزب”. قامت تلك المرحلة على حسم مسألة الولاء العقائدي والتخفّف من الولاءات الفقهية المتعدّدة، بحيث جعلت “الحزب” وجسمه الشعبي مرتبطين بشكل تامّ بطهران ووليّ الفقيه الذي يجلس على رأس النظام الإسلامي باعتباره وليّاً لأمر المسلمين.

في موازاة هذه العملية ذات البعد العقائدي والأيديولوجي، كان ثمّة مسار سياسي بدأ داخل آليّات عمل “الحزب” على الساحة الداخلية. فالقيادة الجديدة ورثت من سلفها معادلة جديدة برعاية سورية – إيرانية، أنتجتها الحرب الداخلية التي خاضها “الحزب” مع حركة أمل، وتقوم على تطويب العمل المقاوم لـ”الحزب” واستمراريّته في إطار المصالح الاستراتيجية للتحالف السوري الإيراني، الأمر الذي سمح للرئيس حافظ الأسد إبعاد سلاح “الحزب” من دائرة اتّفاق الطائف، والعمل على نزع سلاح الميليشيات المسلّحة، مقابل تولّي رئيس حركة أمل مهمّة الشراكة السياسية مع السلطة والنظام اللبناني ممثّلاً مصالح الطائفة.

شكّل انتخاب نصرالله أميناً عامّاً لـ”الحزب”، بعد اغتيال الموسوي، بداية لمرحلة مختلفة في حياة الحزب السياسية والعقائدية، يمكن وصفها بأنّها “التأسيس الثاني” لـ”الحزب”

براغماتية “الحزب” السياسية والعقائدية، التي قادها الأمين العامّ نصرالله، قامت على مبدأ القضم والتمدّد لتكريس الشراكة ثمّ الانتقال إلى التحكّم، فكان أن استغلّ “الحزب” عودة الحياة البرلمانية فأعلن مشاركته فيها من باب الشراكة مع حركة أمل وبهدف “توفير الحماية” لسلاح المقاومة. وهو مبدأ توسّع لاحقاً وبات غطاء لتسويغ الانخراط في العمل الإداري من خلال دخول التشكيلات الوزارية.

هذا الدخول أو هذه الشراكة في الحياة السياسية فرضت على “الحزب” التكيّف مع حقائق التركيبة اللبنانية، وقد ترجم هذا التكيّف من خلال تراجع البعد العقائدي السياسي والسعي إلى إقامة دولة إسلامية أو فرض الغلبة على الداخل اللبناني، أمام الليونة والاعتراف بالشركاء الآخرين وصعوبة أن يُحكم لبنان من جهة واحدة أو طرف واحد، بالتزامن مع الدعوة إلى عقد مؤتمر تأسيسي على أنقاض ميثاق عام 1943 لإعادة تعريف حجم ودور المكوّن الشيعي في تركيبة النظام السياسي والسلطة.

مرحلة جديدة

هذا التحوّل في عقليّة العمل الحزبي والسعي إلى تسويغ ازدواجية الخصوصية اللبنانية وشمولية الانتماء الأيديولوجي وولاية الفقيه، سمحا له بإدارة مواقفه وسياساته بكثير من الواقعية والبراغماتية التي لا تتعارض مع العرفان الإيراني الذي يرى أنّ “الطرق إلى الله تتعدّد بتعدّد أنفس الخلائق”. وهو ما يعني إمكانية التوفيق بين الانغماس بالشأن الداخلي وتفاصيله، من دون تخلّيه عن الالتزام العقائدي أو الأيديولوجي بقيادة وليّ أمر المسلمين ونظريّة ولاية الفقيه المطلقة التي يمثّلها المرشد الأعلى للنظام في طهران.

براغماتية “الحزب” السياسية والعقائدية، التي قادها الأمين العامّ نصرالله، قامت على مبدأ القضم والتمدّد لتكريس الشراكة ثمّ الانتقال إلى التحكّم

استطاع “الحزب” في ظلّ قيادة نصرالله عبر توظيف التطوّرات والأحداث التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، من الصراع مع إسرائيل وتبنّي القضيّة الفلسطينية إلى الأزمات والحروب التي شهدتها كلّ من سوريا والعراق واليمن، أن يفرض نفسه شريكاً لا يمكن تخطّيه أو تجاوزه في أيّ معادلة لبنانية، من خلال توظيف الدور والثقل الإقليميَّين تارة، أو من خلال أذرعه العسكرية في الداخل تارة أخرى.

قاربت سيطرة نصرالله على المشهد في “الحزب” على حساب كلّ مراكز القرار داخل التركيبة السياسية والتنظيمية، في الكثير من الملفّات، حدّ الإلغاء والتهميش أو حصرها على مستوى الشراكة المحدودة والمدروسة في آليّات اتّخاذ القرار. فما كان يعرفه الأمين العامّ لم يكن يعرفه قادة المكتب السياسي أو العمل النيابي وهيئة التنفيذ، باستثناء من كان يريد لهم أن يعرفوا منه، وما يعرفه هؤلاء يعرفه نصرالله حتماً.

استشهاد نصرالله نتيجة استهدافه بغارة إسرائيلية في 27 أيلول 2024، وضع “الحزب” وقيادته السياسية أمام مرحلة جديدة، خاصة أنّ اغتيال السيّد نصرالله جاء محطّة أخيرة في العملية الإسرائيلية التي أخرجت من الساحة كلّ القيادات العسكرية والأمنيّة التاريخية والتي رافقت الأمين العامّ على مدى العقود الماضية منذ التأسيس.

إذا ما افترضنا وجود فصل حازم بين العمل العسكري والجسم السياسي داخل “الحزب”، الذي كان خاضعاً بشدّة لإدارة مباشرة ومشدّدة من قبل الأمين العامّ وفق انضباطية تامّة، فإنّ إعادة ترميم الجسم العسكري بعد الخسائر التي لحقت به قد تذهب إلى مستوى إعادة بناء العقيدة العسكرية على أسس جديدة تعطي للداخل اللبناني الأولويّة من أجل الدفاع عن المكوّن أمام أيّ تهديدات داخلية أو خارجية، والتخفّف من الشمولية التي أُدخل فيها في العقود الماضية بتأثير من نفوذ قائد قوّة القدس قاسم سليماني وعقائديّة الأمين العامّ.

قاربت سيطرة نصرالله على المشهد في “الحزب” على حساب كلّ مراكز القرار داخل التركيبة السياسية والتنظيمية، في الكثير من الملفّات

من قُم إلى النّجف

أمّا على المستوى السياسي، فإنّ غياب نصرالله يعني إعادة ترتيب وتوزيع المهمّات داخل الجسم السياسي، الذي يواجه مهمّة صعبة ومعقّدة، إن كان على المستوى الداخلي بإعادة هيكلة التنظيم واستيعاب مطالب البيئة الحاضنة والمكوّن العامّ، أو على مستوى التعامل مع الملفّات السياسية والإدارة والعلاقة مع الدولة اللبنانية، علاوة على مهمّة إدارة ملفّ العلاقة مع العمق الاستراتيجي في طهران، والبعد الأيديولوجي في التعامل مع موجبات الاعتقاد بولاية الفقيه.

إنّ انتخاب الشيخ نعيم قاسم لموقع الأمين العامّ لـ”الحزب”، بعدما شغل لأكثر من ثلاثة عقود موقع نائب الأمين العامّ، يعني أنّ “الحزب” في ظلّ اغتيال الأمين العامّ المفترض السيّد هاشم صفيّ الدين، ومعه الراعي الإيراني، قد اتّخذا قراراً يحاكي الواقعية السياسية، وأنّ المرحلة المقبلة تستدعي رفع مستوى الانخراط في الشأن الداخلي اللبناني الذي قد يكون أكثر إمكاناً في ظلّ قيادة الشيخ قاسم نتيجة تسلّمه لمهمّة الملفّ الداخلي والتعامل مع تفاصيل هذا الشأن وتعقيداته، وهو يعتبر الأكثر معرفة به إلى جانب سلفه الأمين العامّ ورئيس شورى التنفيذ السيّد صفيّ الدين، ومعهم رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النيابية محمد رعد.

غياب السيّدين نصرالله وصفيّ الدين عن المشهد السياسي في “الحزب”، يعني غياب الدور والتأثير للمدرسة الإيرانية والحوزة الدينية في قم

غياب السيّدين نصرالله وصفيّ الدين عن المشهد السياسي في “الحزب”، يعني غياب الدور والتأثير للمدرسة الإيرانية والحوزة الدينية في قم، وبروز التأثير الديني لحوزة النجف الأشرف والمدرسة “الدعويّة” وحزب الدعوة التي يمثّلها الأمين العامّ الجديد والنائب رعد اللذان أتيا إلى “الحزب” من تجربة متجذّرة في حزب الدعوة، علاوة على الهويّة العالمية والنشاط الفكري والثقافي والديني الذي لعبه اتّحاد الطلبة المسلمين.

تعيد هذه القيادة الجديدة إلى الذاكرة مرحلة البدايات لتشكّل “الحزب” الذي قام على كتلة مؤسّسة تنتمي لحزب الدعوة، مع التأكيد أنّ القيادة الجديدة قد انسحبت تماماً من انتمائها “الدعويّ”، وانتقلت إلى الاندماج في التجربة الإيرانية والولائية، إلّا أنّ التأثيرات الفكرية لهذه الخلفيّة السياسية لن تكون بعيدة عن التأثير على المسارات الجديدة لعمل “الحزب” على الساحة اللبنانية، خاصة أنّ هذين الشخصين هما أقرب إلى المدرسة “الدعويّة” التي عملت على التعايش مع الواقع السياسي والحقائق المستجدّة وتخلّت عن السعي إلى تطبيق مبدأ التمكين وبناء النظام أو الحكم الإسلامي الذي يشكّل خلفيّتها العقائدية في العمل السياسي، وربّما التجربة الماثلة في الممارسة السياسية لحزب الدعوة في العراق بقيادة نوري المالكي في العقدين الأخيرين قد تساعد على فهم إمكانية حصول مثل هذا التحوّل في عمل “الحزب” على الساحة اللبنانية، خاصة أنّ هذا التحوّل لن يكون في تعارض مع موقف ورأي العمق الاستراتيجي في طهران ووليّ الفقيه من أجل الحفاظ على الاستمرارية والسعي إلى الحفاظ على المكاسب والانطلاق نحو تعزيزها بعد تجاوز تداعيات الخسائر والتراجع الذي حصل نتيجة الحرب الإسرائيلية الأخيرة والمعادلات الجديدة التي فرضتها على المستويين الداخلي والإقليمي.

إقرأ أيضاً: في أحوال الحزب وتحولاته: السيد أحكم القبضة الإيرانية (2/3)

مواضيع ذات صلة

دعم مسيحيّ “مقدّس” للرّئاسة وضغط خارجيّ يُنتجان الحكومة

يتخبّط المشهد السياسي اللبناني بين عقبات تأليف الحكومة والتوتّر على الحدود الجنوبية وخروقات تنفيذ اتّفاق وقف النار. أخذت تتزايد الخشية من فقدان زخم “المرحلة الجديدة”…

سلام ترامب: المنحاز لإسرائيل

في الحملات الانتخابية، سواء كانت على مستوى إدارة جمعية خيرية أو نادٍ رياضيّ أو برلمان أو رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، تنهمر وعود المتنافسين كالمطر، ويخترع…

ترامب والأردن… ذو اللّاءات الإيجابيّة

توجد لاءات عربية ذات طابع سلبي وأخرى ذات طابع إيجابي. تشير اللاءات السلبية، مثل لاءات قمّة الخرطوم في عام 1967، إلى رغبة في استمرار الجمود…

أعان الله نوّاف سلام

يقول دبلوماسي عربي محبّ للبنان وشعبه في جلسة خاصّة: “في بلدنا أزمات ومشاكل، تشبه كثيراً الأزمات والمشاكل التي يعيشها لبنان. بلدان متشابهان بالموقع والتحدّيات. لكنّ…