في مطلع 2023، دفعت الولايات المتحدة الأميركية لعقد لقاءات إقليمية عرفت بقمّتَي “العقبة” و”شرم الشيخ”. ضمّت ممثّلين عن إسرائيل و السلطة الفلسطينية والأردن ومصر والولايات المتحدة. وكانت ذات صبغة أمنيّة بحتة، هدفها تعزيز التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وقيام الأخيرة عبر أجهزتها الأمنيّة بدور مباشر في احتواء حالة المقاومة بما يسمح بتهدئة الأوضاع في الضفة الغربية التي كانت مشتعلة آنذاك.
أغفلت واشنطن النظر عن كلّ السياسات الإسرائيلية في الضفة. وغضّت الطرف عن الاستيطان وإرهاب المستوطنين، وقتل إسرائيل لإمكانية حلّ الدولتين عمليّاً من خلال فرض الأمر الواقع على الأرض. وركّزت جلّ اهتمامها على الملفّ الأمني، مكرّسة صورة السلطة الفلسطينية في أذهان الكثيرين كوكيل أمنيّ فقط.
عوّلت السلطة الفلسطينية على إدارة بايدن مع وصولها للبيت الأبيض لإحداث اختراق في القضية الفلسطينية. وتحريك عملية السلام. والتراجع عن القرارات التي اتّخذها الرئيس السابق دونالد ترامب. لكنّ ذلك لم يحدث كما كانت تشتهي، فواشنطن لم تلتفت للسلطة إلا عند كلّ تطوّر أمنيّ في المنطقة. وهذا تجلّى في أوّل اتّصال هاتفي أجراه بايدن بالرئيس عباس بعد معركة سيف القدس في 2021. وهو ما تكرّر بتحرّك واشنطن لعقد قمّتَي العقبة وشرم الشيخ، بعد تصاعد المقاومة في الضفة، والخشية من انفجار الأوضاع الأمنيّة برمّتها. وحدث مرّة أخرى بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول).
الرؤية الإسرائيلية لدور السلطة
تمحورت الرؤية الأميركية للسلطة الفلسطينية بعد 7 من أكتوبر، حول عدّة مرتكزات، شكّلت محور اللقاءات الستّة التي عقدها وزير الخارجية أنتوني بلينكن مع الرئيس عباس. وهي تعزيز دور السلطة الأمنيّ. ومنع أيّ تصعيد في الضفة لإسناد قطاع غزة. وإمكانية إشراك السلطة بدور في غزة في اليوم التالي للحرب. وهذا يحتاج إلى إحداث تغييرات وإصلاحات في هيكلية السلطة. وهي النغمة التي لم تنفكّ الإدارات الأميركية تستخدمها. وتندرج في إطار الضغوطات عليها. جاعلة من شعار الدولة الفلسطينية جزرة معلّقة، تحتاج من السلطة بذل المزيد من الجهود لتثبت أنّها تستحقّها.
عوّلت السلطة الفلسطينية على إدارة بايدن مع وصولها للبيت الأبيض لإحداث اختراق في القضية الفلسطينية. وتحريك عملية السلام
أمّا الرؤية الإسرائيلية فقد اختلفت عن نظيرتها الأميركية إزاء السلطة. فقد شنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزراؤه ووسائل إعلام اليمين هجوماً واسعاً على السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنيّة. حين قال نتنياهو “نستعدّ لاحتمال المواجهة مع أجهزة أمن السلطة الفلسطينية بالضفة الغربية”. أمّا وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس فقد اتّهم في 25 شباط السلطة الفلسطينية بالإرهاب. قائلاً إنّ “السلطة الفلسطينية لن تكون جزءاً من الحكومة المدنية في قطاع غزة. بعد انتهاء الحرب فيها. ولن نستبدل الإرهابيين (في إشارة إلى حركة حماس التي تسيطر على القطاع منذ منتصف عام 2007) بإرهابيين (السلطة الفلسطينية)”.
يعلن نتنياهو على الملأ رفض إسرائيل لأيّ دور للسلطة في غزة بعد الحرب، والأفكار الأميركية بشأن الدولة الفلسطينية. ويستمرّ بالتحريض على الأجهزة الأمنيّة والتهديد بخوض قتال معها. وربّما هذا يكشف العقليّة الإسرائيلية والنظرة للسلطة الفلسطينية المحصورة في الجانب الأمنيّ، والتي تطلب من السلطة تقديم خدمات أكثر ممّا تقدّمه. ووضعها في خانة التقصير والعجز والضعف، وبالتالي دفعها إلى أن تكون سلطة “عميلة” ووكيلاً أمنيّاً لها. وهذا ما يُلمس ببعض المطالب الإسرائيلية كإدانة عملية طوفان الأقصى. واجتثاث المقاومين في الضفة الغربية والاشتباك معهم. والتوقّف عن دفع مخصّصات ماليّة لعائلات الشهداء والأسرى. وتغيّر مناهجها التعليمية.
ماذا سيحصل في رمضان؟
بينما تتّجه الأنظار حالياً الى الضفة الغربية، وسط تحذيرات وتقييمات أمنيّة من مغبّة انفجارها خلال شهر رمضان. استمرّ التحريض الإسرائيلي عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية. وكان آخر تجلّياته ما كتبه الصحافي يوني بن مناحيم في مجلّة “إيبوك” العبرية في 5 آذار من أنّ عناصر من السلطة الفلسطينية يشاركون في عمليات المقاومة. وأنّه منذ اندلاع الحرب على غزة، شارك العشرات من عناصر الأجهزة الأمنيّة الفلسطينية في عمليات ضدّ إسرائيل.
وخلص بن مناحيم إلى أنّه “لهذا ليس بمقدور الجيش الإسرائيلي الاعتماد على أجهزة أمن السلطة الفلسطينية لوقف حال التصعيد في الضفة الغربية خلال فترة شهر رمضان”.
يعلن نتنياهو على الملأ رفض إسرائيل لأيّ دور للسلطة في غزة بعد الحرب، والأفكار الأميركية بشأن الدولة الفلسطينية
ضمن هذا التحريض المستمرّ، كثّفت إسرائيل من اقتحام قوّاتها اليومي للمدن والبلدات في الضفة الغربية ليلاً ونهاراً. في تقويض ومسّ بالسلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنيّة التي يُطلب منها التزام مقرّاتها. وواصلت الاقتطاعات المالية من أموال المقاصّة، معمّقة من أزمتها المالية. ومُطلقة العنان للمستوطنين في بناء البؤر الاستيطانية وسرقة الأراضي ومهاجمة الفلسطينيين على غرار الهجوم الأخير على برقة في 2 آذار.
بعيداً عن التحريض الإعلامي والسياسي ضدّها الذي يقوده اليمين المتطرّف، تدرك السلطة الفلسطينية حاجة إسرائيل الأمنيّة إليها. وضرورة وجودها للمجتمع الدولي. وهي تركن إلى ذلك في حفظ بقائها. وتجد نفسها الرابحة دوماً من أيّ عملية سياسية تحدث في المنطقة. أو من أيّ تصعيد أمنيّ قد ينفجر. لأنّها أحد أطراف الحلّ. لكنّ ذلك الإدراك ليس شرطاً أن يبقى حقيقة على الدوام، في ظلّ التغييرات التي تحدثها إسرائيل على الأرض يومياً. وتحديداً في الضفة الغربية. والتي تُضعف دور السلطة ومكانتها، وتؤطّر مستقبلها ضمن حدود إدارة الحكم الذاتي أو بلدية كبيرة، دون أيّ صبغة سياسية.
بعيداً عن التحريض الإعلامي والسياسي ضدّها الذي يقوده اليمين المتطرّف، تدرك السلطة الفلسطينية حاجة إسرائيل الأمنيّة إليها
منذ اتفاق أوسلو عام 1993، علّقت السلطة الفلسطينية رهانها على الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي وعملية السلام. ومنذ انتخاب محمود عباس رئيساً للسلطة قبل 18 عاماً. وهو يكتفي بذلك الرهان. على الرغم من خسارته كلّ يوم أرضاً جديدة من تحت قدميه من أجل مشروع الاستيطان. الذي يبدو اليوم أقرب إلى دولة “يهودا” في الضفة الغربية، من الدولة الفلسطينية.
ومهما كانت الاعتبارات التي تحصّن السلطة الفلسطينية نفسها بها للنجاة، فإنّها لن تكون بمأمن لفترة طويلة من مقصلة الإعدام والهجوم. فاليمين المتطرّف في إسرائيل الذي يعتبرها إرهابية لن يسمح ببقائها طويلاً. ومشروع التهجير الذي حاولت إسرائيل تطبيقه في غزة هو معدّ ومحضّر بالأصل للضفة الغربية. ولذلك لن تتوانى إسرائيل عن تنفيذ مخطّط تهجير الضفة حين تتوافر الفرصة المناسبة لذلك. وقد ظهرت تجلّيات ذلك في بلدات وقرى الضفة الغربية، عبر منشورات وزّعتها مجموعات استيطانية تدعو سكان الضفة للهجرة إلى الأردن أو الذبح والقتل والحرق. بل بنجاح المستوطنين في تهجير 3 آلاف فلسطيني من تجمّعاتهم البدوية في الضفة منذ 7 أكتوبر. ولذلك على السلطة أن تأخذ التحريض عليها على محمل الجدّ، وأن تضع في حساباتها أنّ “المتغطّي” بالأميركيين والمجتمع الدولي، سيبقى عارياً طوال الوقت.
إقرأ أيضاً: مخاوف من خسارة ورقة الرهائن قبل اقتحام رفح؟