يعود الكلام عن توزيع الخسائر في أزمة القطاع المصرفي و مصارف لبنان. وفي الوقت ذاته يُستبعد عمداً الكلام عن توزيع المسؤولية بين الأطراف التي تسبّبت بالأزمة. وبعد تجميد العمل ببنود الاتفاق المبدئي بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي، وتعليق العمل بتوصيات التقرير المبدئي للتدقيق الجنائي، يعيش المواطن اللبناني حالة من الغثيان فيما الاقتصاد على فوهة بركان.
الخبير المصرفي الدكتور محمد فحيلي يقدّم في هذا المقال خمسة مشاهد للإضاءة على الحلول الممكنة وعلى مخاطر التباطؤ في الحلّ.
خماسيتان في لبنان. الأولى لخمس دول مهتمة بالملف الرئاسي وإعادة تكوين السلطة، والثانية ضرورية لإعادة الحياة إلى مصارف لبنان:
– أوّلاً، الخطة الحكومية لإعادة هيكلة القطاع المصرفي ومصارف لبنان وعودة الانتظام للقطاع الماليّ تعطي المدين (الدولة و/أو مصرف لبنان) صلاحيّات مطلقة لمساءلة ومحاسبة الدائن (المودع و/أو المصرف التجاري). مع تنصّل تامّ من مسؤوليّتها في الإنقاذ والإصلاح.
الحكومات المتعاقبة، التي ولدت جميعها من رحم مكوّنات الطبقة السياسية ذاتها، جعلت من أدائها في إدارة الأزمة أزمة بحدّ ذاتها. وكانت تداعياتها السلبية مضاعفة. تعدّدت مشاريع القوانين التي تقدّمت بها الحكومة الحالية لإنقاذ القطاع المالي. الغائب الأكبر عن كلّ مشروع كان “إطلاق عجلة ترميم الثقة بين المصارف التجارية العاملة في لبنان والمجتمع اللبناني”. وترميم الثقة هو الممرّ الإلزامي لعودة الحياة الكريمة والمنتجة للقطاع المصرفي في لبنان.
لنفترض أنّ الحكومة نجحت في إعادة هيكلة المصارف القادرة على الاستمرار في خدمة الاقتصاد وعزّزت سيولتها ورأسمالها. فهذا لن يغيّر شيئاً في الحقيقة المرّة التي يعاني منها كلّ مصرف. عند المعرفة بتعافي المصرف، سوف يذهب كلّ مودع فيه ويطالبه بوديعته بالعملة الأجنبية نقداً ليخزّنها في منزله.
الأهمّ في الوصول إلى نقطة التعافي:
– أن يأتي المواطن بالأوراق النقدية من منزله ويودعها في حسابات مصرفية.
– عودة المؤسّسات التجارية إلى توطين رواتب وأجور موظّفيها في حسابات مصرفية.
– وأن يعود المواطن إلى اعتماد وسائل الدفع المتاحة من خلال مصارف لبنان في تسديد فواتير الاستهلاك.
وكلّ هذا يحتاج إلى “ثقة” أكثر من أيّ شيء آخر.
يعود الكلام عن توزيع الخسائر في أزمة القطاع المصرفي ومصارف لبنان. وفي الوقت ذاته يُستبعد الكلام عن توزيع المسؤولية بين الأطراف التي تسبّبت بالأزمة
ضرورة فصل الحكم…. عن الحاكم
– ثانياً، محاسن قرار مجلس شورى الدولة الأخير كانت في التأكيد .على التالي:
– أنّه على مصرف لبنان التزامات اتّجاه المصارف التجارية. وأنّه من غير الدستوري إعفاءه منها.
– على الدولة مسؤولية إعادة رسملة المركزي عملاً بقانون النقد والتسليف. غير ذلك، لا قيمة لهذا القرار. وأيضاً لا يُعوّل على إنتاجية قرارات مجلس شورى الدولة في ظلّ منظومة سياسية تُفَصِّلُ القرارات، حتى القضائية منها، وتُخيطها على قياس مصالحها.
سبق أن ألغت السلطة القضائية الأعلى في البلاد تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 51. لكن استمرّت مصارف لبنان بالعمل فيه حتى انتهت صلاحيّته في نهاية عام 2023. وصدرت قرارات عن عدّة محاكم في لبنان لمصلحة مودعين وضدّ مصارف و/أو مصرفيّين لم تنفّذ حتى اليوم.
الحقيقة هي أنّه عندما يكون الحكم والحاكم شريكين في الأزمة ولهما دور فاعل في مسبّباتها، من الصعب جدّاً الدفع باتجاه الحلول العادلة. ما تفسده السياسة لن يصلحه القضاء في لبنان. يجب الطلب والمطالبة بالحلول ومعالجة الأزمة من خلال مبادرات يطلقها كلّ مكوّن من مكوّنات القطاع الخاص. أثبتت هذه المكوّنات قدرة استثنائية على الصمود والتأقلم مع المتغيّرات الاقتصادية والسياسية والدستورية والأمنيّة وتداعياتها. وكلّ مصرف على حدة باستطاعته إطلاق عجلة إعادة ترميم الثقة بينه وبين المجتمع اللبناني، خصوصاً المصارف التي تستوفي شروط الاستمرار في خدمة الاقتصاد.
– ثالثاً، النسخة المعدّلة لقانون الكابيتال كونترول تُرسل إلى الأمانة العامّة لمجلس النواب في الأيام القليلة المقبلة. وهو تاريخ الاستحقاق الذي وضعه الرئيس نبيه برّي. لن تختلف هذه النسخة عن سابقاتها لأنّ العقل المدبّر هو ذاته. وإلامَ يهدف هذا القانون بعد أربع سنوات على الأزمة وإنفاق مليارات الدولارات بسبب الهدر والدعم العشوائي للاستيراد؟
تراكمت وتكاثرت الاعتراضات على المزاجيّة التي تمارسها مصارف لبنان في الامتثال لأحكام تعاميم مصرف لبنان التي تنظّم السحوبات بالعملة الأجنبية
إذا كان الهدف هو الحدّ من السحوبات من أرصدة الحسابات بالعملة الأجنبية لتبرير وضع سقوف للسحب من أرصدة الحسابات بالدولار المحلّي من مصارف لبنان… فلن يقف القانون عند هذا الحدّ. وسوف يطال أرصدة الحسابات المكوّنة وفق أحكام تعاميم مصرف لبنان الأساسية التي تحمل الأرقام 150 و165 والتي تُعرف بالحسابات الفريش. وسوف يكون ذلك كافياً لإسقاط أيّ مشروع قانون يشمل السحوبات من الحسابات الفريش ويضع أيّ نوع من القيود عليها. تمّت “حياكة” هذه التعاميم بدهاء وذكاء نقديّ وماليّ مميّز!
التعميم 154 ممرّ إلزامي لإحياء مصارف لبنان
– رابعاً، تعاميم مصرف لبنان بين الامتثال والاستنسابية في ظلّ غياب دور لجنة الرقابة على المصارف. تراكمت وتكاثرت الاعتراضات على المزاجيّة التي تمارسها مصارف لبنان في الامتثال لأحكام تعاميم مصرف لبنان التي تنظّم السحوبات بالعملة الأجنبية. لكن يعجز مصرف لبنان عن معالجتها بما توافر له من إمكانات. وتحوّل ذلك إلى فرصة ذهبية للمصارف للاسترسال في ممارسة الزبائنية في خدمة المودعين.
وفي المقلب الآخر، يبقى التعميم الأساسي رقم 154 الحاضر والغائب في كلّ المناسبات. لأنّه، شاء من شاء وأبى من أبى، يشكّل الممرّ الإلزامي لإعادة الحياة إلى القطاع المصرفي. وذلك من خلال تعزيز السيولة والملاءة والعودة إلى ممارسة الشمول المالي (Financial Inclusion) كما كان الحال قبل سنة 2019.
لكنّ دخول السياسة على خطّ الإصلاح المالي وعودة الانتظام إلى العمل المصرفي أفقد هذا التعميم كلّ ما أعطاه المشرّع من قوّة. التعميم 154 في إحدى موادّه يطالب النافذين سياسياً والسياسيين ومن يعوّل عليهم السياسيون في الوزارات من مديرين عامّين وغيرهم بإعادة أموال كانوا قد حوّلوها من مصارف لبنان إلى الخارج. وذلك بدءاً من أوّل تموز 2017 حتى تاريخ إصدار التعميم في آب 2020. ولم يعفِ كبار المساهمين في المصارف وأعضاء مجالس إداراتها من ذلك. إذا توافرت الإرادة للإصلاح، الطريق إليه واضحة وسالكة!
من أفسد لبنان جُدِّدَ لسلطنته في انتخابات أيار 2022، وكان ذلك بمنزلة تصديق على أدائه
“مَن يريدُ ماذا؟”
– خامساً، الدولار المصرفي والتهرّب من المسؤولية. وفق التسريبات والمعلومات، كان هناك “تقاطع” بين وزير المالية ورئيس حكومة تصريف الأعمال على سعر 25,000 ليرة للدولار الواحد كسعر صرف للدولار المصرفي. في ظلّ إصرار حاكم مصرف لبنان بالإنابة على سعر الـ 89,500 ليرة الذي أعلنه جهراً.
لكنّ رئيس الحكومة يريد سعر الصرف الرسمي أن يصدر بموجب قانون من مجلس النواب. رئيس مجلس النواب يريده مرسوماً من مجلس الوزراء. ومصرف لبنان على استعداد لتنفيذ قرار السلطة عند صدوره. مع تأكيد مصرف لبنان عدم قدرته على توفير السيولة للسحوبات وفق السعر الذي أعلنه في التعميم الأساسي الأخير رقم 167. فهو بحاجة إلى قانون يضبط السحوبات ويضع سقفاً لها. الأهمّ أنّه إذا تعذّر عليك استيعاب وفهم “من يريد ماذا”، فهذا طبيعي لأنّ هذا هو المستهدف من استمرار السلطة الحاكمة في اعتماد نهج توزيع الأدوار فيما بينها في مقاربة الحلول. فهكذا يخرج الكلّ رابحاً في ميزان المكاسب السياسية.
إقرأ أيضاً: سعر صرف الدولار على المحكّ.. حرب وزيادات وإضرابات
يبقى حتماً الانتظار سيّد الموقف في المشهد النقدي لأنّ الظروف السياسية اليوم لا تستوفي شروط الإصلاح. من أفسد لبنان جُدِّدَ لسلطنته في انتخابات أيار 2022، وكان ذلك بمنزلة تصديق على أدائه!
لمتابعة الكاتب على X: