تتضافر الظروف على سعر صرف الدولار. فتضغط على مصرف لبنان لتدفعه نحو خسارة إنجازه الوحيد منذ شهر آب إلى اليوم، ألا وهو “استقرار سعر صرف الدولار”. الحرب والحزب وموظّفو القطاع العامّ، ذاك الثالوث الذي يهدّد بتدمير استقرارٍ نقدي حلم به اللبنانيون لسنوات ونعموا به لأشهر… فهل يتبخّر؟
بعد استقرار ساد لنحو سبعة أشهر، عاد القلق من احتمال تدهور سعر صرف الدولار إلى الواجهة. تدلّ المؤشّرات على أنّ الوضع “مضبوط” من مصرف لبنان “إلى حين”. إذ تتضافر مجموعة من الظروف، فتمارس المزيد من الضغوط على سعر صرف الليرة.
لكن قبل الغوص بتلك الظروف، فلنستذكر قليلاً الآليّة السائدة منذ رحيل الحاكم السابق رياض سلامة حتى اليوم:
منذ دولرة أسعار السلع بقرار من وزارة الاقتصاد، بدأ الطلب على الليرة اللبنانية بالتراجع لمصلحة التعامل بالدولار الأميركي. تطوّر هذا الواقع مع الوقت فأمست الليرة اللبنانية “عملة الدولة” وليس “عملة لبنان”. بمعنى آخر، اقتصر إقبال المواطنين اللبنانيين على الليرة اللبنانية من أجل دفع الرسوم والضرائب فقط. إلى جانب بعض المستلزمات اليومية البسيطة (دفع بدل “باركينغ”، علبة سجائر، شراء اللبان أو القهوة…).
رويداً رويداً، تحوّلت شبابيك الصرّافين إلى اتّجاه واحد: عرض دولارات مقابل ليرات لبنانية… وحتى هذا الطلب تراجع جدّاً في الآونة الأخيرة (تراجع عرض الدولارات) نتيجة عدم حاجة اللبنانيين إلى الليرة واستسهال الدفع بالدولار (أوراق أقلّ – قيمة أكبر). فخفّ الضغط على سعر صرف الدولار.
كيف ضبط مصرف لبنان سعر صرف الدولار؟
بما أنّ مصرف لبنان هو الجهة الوحيدة التي تحتكر الليرات، تحوّلت مهمّته إلى تزويد الصرّافين بالليرات التي يفتقدونها لقاء حصوله منهم على الدولارات. ومنذ وصول وسيم منصوري إلى حاكمية مصرف لبنان بالإنابة، رفض طبع الليرات، وأصرّ على عدم تسليف الدولة اللبنانية قرشاً واحداً.
بعد استقرار ساد لنحو سبعة أشهر، عاد القلق من احتمال تدهور سعر صرف الدولار إلى الواجهة
لكنّ منصوري في المقابل عقد اتفاقاً مع وزارة المالية. هذا الاتفاق يفيد بشراء الدولارات من أموال الجباية التي تحصّلها صناديق وزارة المالية. إذ تفيد المعلومات بأنّ الوزارة تعكف مذّاك على تزويد المركزي بجدول (مانيفست) مفصّل بحجم الليرات اللبنانية التي تجبيها بشكل يومي. وبناء على ذلك يتدخّل “المركزي” في اليوم التالي في السوق ليشتري دولارات من الصرّافين بحجم ما جبته المالية من ليرات، لا أكثر. وبهذه الطريقة، استطاع المركزي أن يضبط سعر صرف الدولار، بـ”ليرات الدولة” وليس بليراته.
ما هي الضغوط التي استجدّت؟
بعد هذا الشرح المسهب فلنعُد إلى الظروف…
ينفّذ موظّفو القطاع العام، وتحديداً موظّفي وزارة المالية، إضراباً منذ قرابة أسبوع يهدّد بعدم حصول سائر الموظّفين العموميين على رواتبهم بالموعد المحدّد هذا الشهر. وذلك للمطالبة بزيادات على رواتبهم… وهذا ينتج عنه خطران على سعر صرف الدولار:
1- الإضراب نفسه، الذي يؤدّي إلى تراجع إيرادات الدولة. أي تراجع حجم الدولارات التي تدخل خزينة الدولة من خلال تدخّل مصرف لبنان. فالمعادلة التي أرستها هذه الآليّة تفيد بأنّ “الاستهلاك، أي استيراد ثمّ دفع ضرائب ورسوم وTVA، هو الحافز الأوّل للجباية. بمعنى آخر هو الحافز الأوّل لإدخال الليرات إلى الخزينة من أجل شراء الدولارات من السوق” (راجع “أساس” في 28 أيلول 2023: لبنان بلد العجائب: استقرار الدولار سببه فائض الاستهلاك!). فما دامت صناديق وزارة المالية مقفلة وحركة دخول البضائع في المرفأ وبقيّة المنافذ متوقّفة، يميل سعر صرف الدولار إلى الزعزعة.
2- زيادة الرواتب التي يطالب بها الموظّفون العموميّون الحاليون والمتقاعدون، ستزيد الضغوط على سعر صرف الدولار. وذلك لأنّ مصرف لبنان سيكون مضطرّاً إلى التدخّل في السوق بشكل أوسع بليرات الدولة من أجل استقطاب المزيد من الدولارات لدفعها على شكل رواتب.
منصوري في المقابل عقد اتفاقاً مع وزارة المالية. هذا الاتفاق يفيد بشراء الدولارات من أموال الجباية التي تحصّلها صناديق وزارة المالية
وفي هذا الصدد تكشف المعلومات أنّ مصرف لبنان يرفض تلك الزيادة. ويعتبر أنّها ستكون مدمّرة لاستقرار سعر صرف الدولار الذي أرساه منذ شهر آب الفائت عند 89,500 (الإنجاز الوحيد للمركزيّ حتى الآن). وبالتالي فإنّ هذا الرقم ربّما يكون قابلاً للارتفاع أكثر، في حال أصرّت السلطة على منح “موظّفيها” زيادة على الراتب. بينما تقول المعلومات إنّ المركزي لن يكون قادراً على دفع أكثر من 28 مليون دولار شهرياً. أي لن يكون قادراً على التدخّل في السوق لشراء الدولارات بأكثر من 2.5 تريليون ليرة… وإلّا فإنّ سعر صرف الدولار قد ينهار.
الحزب وإسرائيل والجنوب
فوق هذين الظرفين، وحتى لو جرى التفاهم مع الموظّفين على الزيادات وعادت الأمور إلى طبيعتها في القطاع العامّ، ثمّة ظرف ثالث أشدّ خطورة من كلّ ما سبق ذكره. وهو الوضع المتوتّر بين الحزب وإسرائيل في جنوب لبنان، الذي يقول وزير الاقتصاد إنّ تكلفته حتى اللحظة لامست 7 مليارات دولار خسائر.
هذا الوضع، مثلما نرى، قابل للتوسّع في أيّ لحظة ليطال العمق اللبناني وصولاً إلى العاصمة بيروت. وسيؤدّي اندلاع حرب شاملة حتماً إلى شلّ العمل بكلّ إدارات الدولة، بما فيها وزارة المالية وصناديقها. عندها سيمتنع اللبنانيون عن دفع الضرائب والرسوم بشكل كلّي بسبب إقفال الإدارات. ولأنّ المواطنين لا يدفعون خلال الحرب نتيجة ترتيب الأولويّات.
إقرأ أيضاً: لماذا الدولة مسؤولة عن إعادة ودائع اللبنانيين في المصارف؟
سيتراجع كذلك الاستهلاك بشكل كبير، أي ستبدأ ليرات الدولة التي يتدخّل بها مصرف لبنان في السوق، بالضمور. سيضطرّ المصرف المركزي إلى التخلّي عن السياسة التي أرساها منذ شباط. فيعود إلى الإنفاق بالإنابة عن الدولة من احتياطاته المتواضعة التي استطاع أن يعزّزها بشقّ الأنفس… وسيبدأ مسلسل قديم – جديد عنوانه: ارتفاع سعر صرف الدولار مجدّداً.
لمتابعة الكاتب على X: