صندوق النّقد يحسمها: لبنان مقصّر

مدة القراءة 7 د

بينما يشير المسؤولون اللبنانيون إلى قوانين جديدة ومسوّدات خطط، لكن صندوق النقد الدولي غير مقتنع. لا يقتصر الأمر على صدقيّة مساندة الصندوق في المستقبل، بل وصدقيّة لبنان، وإمكان الوصول إلى برنامج إنقاذ وتمويل، ومصير ملايين المودعين الذين ما يزالون محرومين من مدّخراتهم.

 

 

هناك حاجة إلى كشف الفجوة بين ما طالب به صندوق النقد الدوليّ، وهو ما تطالب به مكوّنات المجتمع اللبناني، وبين ما قدّمته الحكومة اللبنانية والبرلمان اللبناني. إنّ أنصاف الإجراءات والإصلاحات التجميليّة وعرقلة النخبة لا تخاطر بإطالة أمد الانهيار الماليّ في لبنان فحسب، بل تخاطر أيضاً بترسيخ خسائر المودعين. وما لم يتمّ سنّ إصلاحات حاسمة الآن، فإنّ لبنان يواجه خطر الانقطاع الدائم عن التمويل العالميّ.

بينما يشير المسؤولون اللبنانيون إلى قوانين جديدة ومسوّدات خطط، لكن صندوق النقد الدولي غير مقتنع

المطالب الأساسيّة لصندوق النّقد الدّوليّ

لم يصل صندوق النقد الدولي إلى بيروت باقتراحات مفتوحة للتفسير. جاء مع مجموعة من شروط التعافي غير القابلة للتفاوض. تعكس هذه المطالب المعايير الدولية للصدقيّة والإصلاح، المصمَّمة لضمان إمكان إعادة بناء النظام الماليّ اللبناني على أرضيّة صلبة: قانون إصلاح المصارف: تعديلات لتعزيز حماية المودعين والحدّ من صلاحيّات المصارف وإغلاق باب تضارب المصالح.

  • خطّة تحديد الخسائر وتوزيعها: آليّة ذات صدقيّة لتقاسم خسائر القطاع المصرفيّ.
  • موازنة طموحة لعام 2026: مع إصلاح ضريبيّ معزِّز للإيرادات وتمويل إعادة الإعمار وحماية اجتماعيّة ذات صدقيّة.
  • التنفيذ لا الإيماءات. حذّر صندوق النقد الدولي صراحة من القوانين التي لا تُنَفَّذ.

ليست هذه المطالب تقنيّات اختياريّة بل متطلّبات وجوديّة. ومن دون هذه الدعمات، لن يفشل لبنان في نيل دعم صندوق النقد الدولي فحسب، بل سيخاطر أيضاً بقطيعة دائمة مع النظام الماليّ الدوليّ. الرسالة لا لبس فيها: لن يتمّ التسامح مع أنصاف الخطوات بعد الآن.

ردّ لبنان: قوانين على الورق والسّياسة في الممارسة

حاولت السلطة إبراز التقدّم المحرَز من خلال تمرير القوانين وصياغة الخطط. ولكنّ ثمّة حقيقة مقلقة: تتعلّق هذه التدابير بالمظاهر أكثر من كونها جوهريّة. وينبع إحباط صندوق النقد الدولي من هذه الفجوة بين الالتزامات الورقيّة والإصلاح الفعليّ القابل للتنفيذ:

  • قانون إصلاح المصارف: تمّ تمريره لكنّه معيب. إنّه يعطي المصارف صلاحيّات، تاركاً صغار المودعين عرضة للخطر. لم يقدّم البرلمان تعديلات جدّية.
  • خطّة الخسائر: لا تزال قيد الإعداد، شابتها مفاوضات غامضة وتلميحات إلى استخدام الأصول العامّة (مثل الذهب والعقارات) لتعويض مسؤوليّات المصارف.
  • قانون السرّية المصرفيّة (نيسان 2025): من دون آليّات إنفاذ فعّالة، قد يبقى حبراً على ورق.
  • موازنة 2026 عالقة في التفاوض. تشير المسوّدات المبكرة إلى النزعة التدريجية بدلاً من الإصلاح الطموح.

ما يظهر هو نمط خطير: إصلاحات تمّت صياغتها لإرضاء المانحين وتهدئة الغضب الشعبيّ، لكنّها جوفاء في التنفيذ والصدقيّة.

لم يصل صندوق النقد الدولي إلى بيروت باقتراحات مفتوحة للتفسير. جاء مع مجموعة من شروط التعافي غير القابلة للتفاوض

سلوك الطّبقة السّياسيّة

في قلب الإصلاحات المتوقّفة  يكمن سلوك القيادة السياسيّة. بدلاً من تقديم الحلول، غالباً ما تعكس أفعالها التردّد وحماية المصالح الخاصّة. إنّ فهم هذا السلوك ضروريّ ليس لإلقاء اللوم، لكن لشرح سبب عدم التقدّم على الرغم من الفرص المتكرّرة.

  • التأخير المتعمَّد: لم يكن تأجيل الإصلاحات نتيجة صعوبات تقنيّة، بل خيار مقصود من قبل المسؤولين يقوم على المماطلة بانتظار أن تخفّ ضغوط صندوق النقد الدولي وأن يملّ المانحون المتابعة. منحت هذه الاستراتيجية الطبقة السياسيّة بعض الوقت، لكنّها كبّدت المودعين والاقتصاد والدولة ثمناً باهظاً. كلّ يوم تأخير يفاقم حجم الخسائر، ويُضيّق هامش الإنقاذ، ويدفع لبنان خطوة إضافية نحو الانقطاع الدائم عن النظام الماليّ العالمي.
  • هيمنة النخبة: إنّ التحالفات بين السياسيّين وأصحاب المصارف تقاوم أيّ تسوية قد تكشف شبكات مصالحها أو تفرض عليها المساءلة والعقاب.
  • الخطاب العلنيّ مقابل الجوهر: وعود من نوع “لا اقتطاع” و”حماية الودائع” ليست سوى شعارات تخفي وراءها رفضاً عميقاً لمواجهة حقيقة الخسائر.
  • الإصلاح كورقة تفاوض: يتمّ التعامل مع الإصلاحات كأوراق للمساومة السياسية وكسب النفوذ، بدل اعتبارها استحقاقات مصيريّة لبقاء الدولة والاقتصاد.

في نهاية المطاف، حوّلت الطبقة السياسية الإصلاح إلى مسرح: وعود جريئة على خشبة المسرح، لكنّ خلف الستار تخريباً. هذا النهج الساخر لا يعمّق الأزمة فحسب، بل يؤدّي أيضاً إلى تآكل أيّ ثقة عامّة باقية. إنّ انهيار لبنان ليس حتميّاً.

عواقب الرّكود المستمرّ

ليست تكاليف التقاعس مجرّدة. يشعر بها المودعون والمصارف والدولة والاقتصاد الأوسع نطاقاً. كلّ تأخير يضاعف المعاناة، ويدفع لبنان إلى طريق الإقصاء والتآكل والتفكّك.

  • المودعون: استمرار تآكل قيمة المدّخرات من خلال التضخّم وتقييد الوصول وتأخّر خطط السداد.
  • المصارف: العزلة المستمرّة عن النظام العالمي، وعدم القدرة على استعادة العلاقات المصرفيّة المراسلة، وإزالة المخاطر بشكل أعمق.
  • الدولة: فقدان الصدقيّة لدى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتّحاد الأوروبيّ والبلدان المانحة.
  • الاقتصاد: الاستبعاد الماليّ المستمرّ وهروب رؤوس الأموال وتعميق الدولرة غير الرسميّة.

كلّما طال أمد الركود، أصبحت الخيارات المتاحة أمام لبنان أضيق. إنّ ما هو على المحكّ ليس الإصلاح الماليّ فقط، بل قدرة البلاد على البقاء جزءاً من النظام الاقتصاديّ العالميّ. إنّ التقاعس اليوم هو فعليّاً قرار الاستسلام غداً.

يقف لبنان اليوم على حافة لحظة حاسمة. لم تكن مهمّة صندوق النقد الدولي في أيلول 2025 مراجعة روتينيّة، بل كانت الفرصة الأخيرة لتغيير المسار

دعوة للاستيقاظ

كانت مهمّة صندوق النقد الدولي في أيلول 2025 أكثر من مراجعة دوريّة. لقد كانت تذكيراً أخيراً بأنّ الوقت ينفد. لا يزال أمام لبنان فرصة ضيّقة لإظهار الصدقيّة، لكنّ الخطوات التجميليّة والإيماءات القانونيّة لن تكون كافية بعد الآن.

يتعيّن على صنّاع السياسات أن يدركوا أنّ هامش التأخير قد اختفى تقريباً. بالنسبة لصانعي السياسات، هذه هي آخر إشارة واضحة قبل أن تصبح العزلة لا رجعة فيها. يجب على صانعي السياسات اللبنانيّين أن يفهموا:

  • صندوق النقد الدولي غير معجب بقوانين التجميل. التعديلات والإنفاذ الحقيقي مطلوبان.
  • التأخير هو سياسة تدميريّة. كلّ شهر من المماطلة يدفع أكثر المودعين إلى اليأس، والاقتصاد إلى الانهيار.
  • صبر الدول المانحة والأصدقاء ليس بلا حدود. يواجه لبنان خطر العزلة الماليّة الدائمة إذا ظلّت الإصلاحات معرقَلة.

إقرأ أيضاً: “السّلاح” يطيح “تفاؤل” مصرف لبنان

يقف لبنان اليوم على حافة لحظة حاسمة. لم تكن مهمّة صندوق النقد الدولي في أيلول 2025 مراجعة روتينيّة، بل كانت الفرصة الأخيرة لتغيير المسار.

الخيار أمام قادة لبنان واضح كلّ الوضوح: إمّا أن يتعاملوا مع الإصلاح كضرورة وجوديّة لبقاء الوطن، من خلال حماية المودعين وتطبيق القوانين واستعادة الانضباط الماليّ، وإمّا أن يدفعوا بالبلاد إلى انهيار أعمق وعزلة دائمة. لن ينتظر العالم، وكذلك شعب لبنان الذي تحمّل وزر الفشل طويلاً.

 

* باحث مقيم في كليّة سليمان س. العليان للأعمال (OSB) في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB).

مواضيع ذات صلة

كارثة مصرفيّة واحدة في لبنان وسورية

لم يكن ينقص سورية في هذه الظروف الانتقاليّة الحرجة إلّا ظهور انكشافها الكبير على الأزمة المصرفيّة في لبنان. تبيّن أنّ أزمة النظام المصرفيّ اللبنانيّ التي…

تسلسل الخطوات لإنقاذ القطاع المالي اللبناني

لا تزال السياسة النقدية والمالية في لبنان رهينة مقاربةٍ تقوم على كسب الوقت وتجنّب مواجهة الحقيقة القاسية: لا تعافٍ اقتصادياً من دون إعادة هيكلة مصرفية…

“السّلاح” يطيح “تفاؤل” مصرف لبنان

تحلّ السياسة في البلدان غير المتطوّرة في موقع متقدِّم على الاقتصاد. تمسك بزمام القيادة وترسم معالم الطريق. يخضع الاقتصاد لمفاعيل القرار السياسيّ من دون أن…

الفجوة الماليّة: بين وهم الحلّ وحقيقة التّصفية

منذ خمس سنوات واللبنانيّون يعيشون تحت ثقل انهيار ماليّ هو من بين الأشدّ في التاريخ الحديث. ملايين المودعين وجدوا أنفسهم فجأة أمام أبواب مصرفيّة مغلقة،…