تسلسل الخطوات لإنقاذ القطاع المالي اللبناني

مدة القراءة 7 د

لا تزال السياسة النقدية والمالية في لبنان رهينة مقاربةٍ تقوم على كسب الوقت وتجنّب مواجهة الحقيقة القاسية: لا تعافٍ اقتصادياً من دون إعادة هيكلة مصرفية شاملة، وحوكمة مستقلة للمصرف المركزي، وبيئةٍ تعاقدية واضحة للديون الجديدة.

 

من دون تحديد الخسائر وتوزيعها قانوناً وعدلاً، ومن دون ضبط استقلالية البنك المركزي ومساءلته، ومن دون إطارٍ واضح لسعر الصرف وطرق الإيفاء والتحكيم، تبقى كل خطوة تقنية مجرّد هندسةٍ قصيرة العمر تولّد تضخّماً جديداً وتُمدِّد حالة اللايقين.

على هذه الخلفية، يأتي جدول أعمال مجلس الوزراء في 23 تشرين الأول 2025 بأربع مواد محورية (2، 4، 6، و11) تبدو متفرّقة شكلاً، لكنها في جوهرها حلقات مترابطة ضمن مسارٍ واحد نحو التعافي.

ترابط المواد الأربعة: من الإطار الإصلاحي إلى حماية المودعين:

المادة 11: القانون الأم لإصلاح القطاع المصرفي وتحديد قواعد اللعبة.

المادة 4: فرصة لضبط استقلالية المصرف المركزي ضمن حوكمة مؤسسية.

المادة 6: تأسيس بيئة تعاقدية سليمة للديون الجديدة بالعملات الأجنبية.

المادة 2: تنظيم حماية المودعين بحيث لا تتحول إلى عائق أمام المعالجة.

السؤال اليوم ليس هل نُقرّ هذه المواد أم لا، بل كيف نُرتّبها وبأي صياغةٍ تضمن الاتساق والتطبيق. فالترتيب الخاطئ يحوّل النصوص إلى شعارات متناقضة، فيما الترتيب الصحيح: إطار إصلاحي شامل أولاً، فحوكمة مستقلة، فبيئة تعاقدية واضحة، فحماية ذكية للمودعين، يُنتج يقيناً مؤسسياً ويفتح باب الثقة والنمو.

لا تزال السياسة النقدية والمالية في لبنان رهينة مقاربةٍ تقوم على كسب الوقت وتجنّب مواجهة الحقيقة القاسية: لا تعافٍ اقتصادياً من دون إعادة هيكلة مصرفية شاملة

المادة 2: حماية المودع بين الشعار والواقع

تنصّ على منع المصارف من شطب أو حسم أو تصفير الودائع، في محاولةٍ لوقف “الهيركت المقنّع” والمقاصّات الانتقائية.

لكن الحظر المطلق يُنتج نتيجة معاكسة: إذ يعطّل أي خطة جدّية لإعادة هيكلة القطاع، لأنّ هذه العملية، بحكم تعريفها، تستلزم شطباً منظّماً لبعض الحقوق ضمن تراتبية قانونية واضحة.

كما أن منع الحسم نهائياً قد ينسف مبدأ المقاصة بين القروض والودائع عندما تكون جزءاً من تسوية قضائية معترف بها.

فإذا أُقِرّت المادة بصيغتها الشعاراتية، فستُرحَّل الخسائر إلى الخزينة أو إلى مصرف لبنان — أي إلى المجتمع — وتُشلّ إمكانية التفاوض مع الدائنين.

الصيغة الرشيدة:

حظر أي شطب أو حسم أحادي خارج خطة معتمدة قضائياً، مع:

إلزام المصارف بالإفصاح الكامل،

حماية خاصة لصغار المودعين،

تنظيم مقاصة عادلة ضمن تسويات جماعية شفافة.

لا يحتاج لبنان إلى مزيد من القوانين المنفصلة، بل إلى سلسلة مترابطة تبدأ بإصلاحٍ مصرفيّ شامل، تُستكمل بحوكمةٍ مستقلة للبنك المركزي، وإطارٍ واضح للديون الجديدة، ثم حمايةٍ ذكية للمودعين

المادة 4: تعديل ولاية الحاكم بين الاستقلالية والاصطفاف السياسي

قد يشكّل تعديل ولاية حاكم مصرف لبنان فرصة لإعادة بناء الثقة بالمؤسسة النقدية، لكنه قد يتحول إلى أداة محاصصة إذا أتى في توقيتٍ سياسي أو لغاياتٍ شخصية.

المطلوب ليس استبدال الأسماء، بل ترسيخ المؤسسة عبر:

  • إنشاء لجنة سياسة نقدية مستقلة،
  • تحديد عدد الولايات وحدودها،
  • اعتماد معايير كفاءة ومؤهلات واضحة،
  • وضع آليات عزل قانونية دقيقة،
  • نشر إفصاحات ربع سنوية ملزمة.

أي تعديلٍ معزول سيبقى عرضةً للاستغلال السياسي، أمّا إذا أُدرج ضمن إطار شامل لحوكمة المصرف المركزي (مجلس نقدي، تدقيقات خارجية، محاضر منشورة، قواعد تضارب مصالح)، فسيسهم في بناء ثقةٍ طويلة الأمد داخلية وخارجية.

المادة 6: تنظيم الديون الجديدة بالدولار لتفادي الفوضى التعاقدية

تعدّد أسعار الصرف وقيود السحب والتحويل أوجد بيئةً قانونية مضطربة. ولتصحيح المسار، يجب أن تُجيب التشريعات الجديدة على أربع قضايا جوهرية:

  • مرجع سعر الصرف: هل يُحدَّد وفق السوق الحر أو منصّة رسمية أو اتفاق تعاقدي؟
  • مكان الإيفاء: داخل لبنان أم خارجه؟ وكيف تُحمى الحقوق من القيود الإدارية؟
  • تمييز الديون القديمة عن الجديدة: لتجنّب نزاعات الماضي.
  • آليات التحكيم السريع: لتسوية النزاعات خلال آجال قصيرة.

لكن من دون خطة زمنية لتوحيد سعر الصرف ورفع القيود تدريجياً، قد تتحول هذه المادة إلى بوابة دولرة دائمة تُحمّل المقترضين مخاطر صرفٍ لا أدوات تحوّط لهم ضدها.

الصيغة المثلى:

حرّية التعاقد على العملة ومكان الإيفاء، مع مرجعية سعر صرف واضحة تعاقداً، وآليات تحكيم سريعة، وإحالة إلى خارطة طريق رسمية لتوحيد الصرف خلال آجال محددة.

المادة 11: قانون الإصلاح المصرفي – الأساس الذي لا يُستغنى عنه

هو القانون الأم الذي يمنح بقية المواد معناها ومفعولها.

دونه، تتحوّل التشريعات الأخرى إلى قوانين رمزية بلا قدرة تنفيذية.

يشمل هذا القانون العناصر التالية:

  • تصنيف المصارف: إلى قابلة للاستمرار، قابلة للرسملة، أو للتصفية.
  • تراتبية الخسائر: من المساهمين إلى الأدوات الهجينة ثم الدائنين غير المضمونين، مع حماية صغار المودعين.
  • هيئة تنفيذ مستقلة: بمهل ملزمة وقرارات قابلة للتنفيذ القضائي.
  • تمويل إعادة الهيكلة: عبر رسملة خاصة، بيع أصول، إنشاء إدارة أصول رديئة، واسترداد الأموال المنهوبة.
  • مسار زمني لتوحيد سعر الصرف ورفع القيود تدريجياً.

من دون هذا الإطار، تتحول المادة 2 إلى قيدٍ جامد، والمادة 6 إلى منفذٍ للدولرة، والمادة 4 إلى أداةٍ للمحاصصة.

التسلسل المطلوب لتجنّب الفوضى التشريعية:

  • إقرار قانون الإصلاح المصرفي (المادة 11) لتحديد القواعد والتراتبية والجهات التنفيذية.
  • تعزيز حوكمة المصرف المركزي (المادة 4) بإنشاء لجنة نقدية ووضع حدود ولايات ومعايير إفصاح.
  • تنظيم الديون الجديدة (المادة 6) ضمن نصٍّ تقني مرتبط بخارطة توحيد سعر الصرف وبرنامج رفع القيود.
  • تعديل المادة 2 لتمنع الشطب الأحادي وتسمح بالحلول المنظمة قضائياً.

بهذا التسلسل، تتحول القوانين من أدواتٍ شعبوية إلى بنية يقين مؤسسي تعيد تشغيل الائتمان وتخفّف الكلفة الاجتماعية.

قد يشكّل تعديل ولاية حاكم مصرف لبنان فرصة لإعادة بناء الثقة بالمؤسسة النقدية، لكنه قد يتحول إلى أداة محاصصة إذا أتى في توقيتٍ سياسي أو لغاياتٍ شخصية

الأداء السياسي: لماذا يتعثّر الواضح؟

منذ عام 2019، غلبت قوانين الشعارات على قوانين التنفيذ: وعود للمودعين ورسائل للأسواق من دون أدوات مؤسسية فعلية.

فالخسارة لم تُحسم بعد — من سيدفعها وكيف؟ — فتمّ ترحيلها عبر التضخّم وتعدّد أسعار الصرف.

تعديل ولاية الحاكم يُستخدم لتقاسم النفوذ لا لترسيخ الاستقلالية، وتنظيم الديون الجديدة يُقرّ بلا ربطٍ بمسار توحيد الصرف.

النتيجة:

أي قانون جيّد بلا توافق سياسي يصبح نصّاً يتيماً. الحلّ ليس تقنياً فحسب، بل قرارٌ سياسي لتوزيع الخسائر ضمن دولة قانون شفافة، وإلا ستبقى الكلفة الاجتماعية تتضخّم بصمت.

توصيات عملية للتنفيذ

  • تشريع محكم لا شعارات: تعديل المادة 2 ليقتصر الحظر على الشطب خارج الخطط المقرّة قضائياً.
  • حوكمة المصرف المركزي: إنشاء لجنة سياسة نقدية مستقلة وتحديد عدد الولايات ومعايير الكفاءة والإفصاح الدوري.
  • بيئة تعاقدية واضحة: اعتماد المادة 6 بنصّ يحدّد مرجع سعر الصرف والتحكيم السريع ويرتبط بخطة توحيد الصرف.
  • الإطار الناظم أولاً: تمرير قانون الإصلاح المصرفي (11) كأساسٍ يتضمّن التصنيف والترتيب والحماية والهيئة المستقلة.
  • شفافية التنفيذ: نشر جداول زمنية وتقارير دورية وتفعيل قضاء مالي مختص لتقليص كلفة عدم اليقين.

إقرأ أيضاً: صندوق النّقد يحسمها: لبنان مقصّر

من التشريع المتوازي إلى الإصلاح المترابط

لا يحتاج لبنان إلى مزيد من القوانين المنفصلة، بل إلى سلسلة مترابطة تبدأ بإصلاحٍ مصرفيّ شامل، تُستكمل بحوكمةٍ مستقلة للبنك المركزي، وإطارٍ واضح للديون الجديدة، ثم حمايةٍ ذكية للمودعين.

حين تُرتَّب الأولويات بهذا الشكل، تتحول القوانين من أدوات مساومة إلى جسرٍ فعلي لاستعادة الثقة — والثقة هي العملة الوحيدة القادرة على إنقاذ اقتصادٍ أنهكه الإنكار.

مواضيع ذات صلة

كارثة مصرفيّة واحدة في لبنان وسورية

لم يكن ينقص سورية في هذه الظروف الانتقاليّة الحرجة إلّا ظهور انكشافها الكبير على الأزمة المصرفيّة في لبنان. تبيّن أنّ أزمة النظام المصرفيّ اللبنانيّ التي…

صندوق النّقد يحسمها: لبنان مقصّر

بينما يشير المسؤولون اللبنانيون إلى قوانين جديدة ومسوّدات خطط، لكن صندوق النقد الدولي غير مقتنع. لا يقتصر الأمر على صدقيّة مساندة الصندوق في المستقبل، بل…

“السّلاح” يطيح “تفاؤل” مصرف لبنان

تحلّ السياسة في البلدان غير المتطوّرة في موقع متقدِّم على الاقتصاد. تمسك بزمام القيادة وترسم معالم الطريق. يخضع الاقتصاد لمفاعيل القرار السياسيّ من دون أن…

الفجوة الماليّة: بين وهم الحلّ وحقيقة التّصفية

منذ خمس سنوات واللبنانيّون يعيشون تحت ثقل انهيار ماليّ هو من بين الأشدّ في التاريخ الحديث. ملايين المودعين وجدوا أنفسهم فجأة أمام أبواب مصرفيّة مغلقة،…