الفراغ الرئاسي المتعمّد: المزيد من التدهور الاقتصادي!

مدة القراءة 6 د

هناك فرق كبير بين الفراغ الدستوري الذي يتمثّل اليوم في خلوّ موقع رئيس الجمهورية، وتفريغ الكيان اللبناني من أيّ سلطة شرعية ودستورية قادرة على اتّخاذ القرارات الإصلاحية الضرورية وتنفيذها. التنافر بين مكوّنات السلطة السياسية مستمرّ لجهة شرعية ودستورية اجتماعات حكومة تصريف الأعمال، وشرعية ودستورية اجتماعات الهيئة العامّة لمجلس النواب للتشريع في ظلّ الفراغ الرئاسي، واليوم السؤال الذي على لسان كلّ مواطن لبناني هو: هل نصبح على حاكم جديد لمصرف لبنان بعد 31 تموز 2023؟ الانتظار في لبنان هو سيّد الموقف، والغموض هو الوضع الذي يفرض نفسه على الساحة السياسية، ويتوجّب علينا أن نشكر ربّ الكون الذي أنعم على وطننا لبنان بالقطاع الخاصّ الذي أطلق عجلة إعادة تكوين الذات، واستطاع بصموده أمام الأزمات وبأدائه المميّز أن يحقّق الاستقرار النقدي والاقتصادي، لكنّ استمرار الفراغ الرئاسي قد يُفرغ كلّ هذه الإنجازات من مضمونها ويعيدنا إلى نقطة الصفر.

المغتربون يحنون على المقيمين
بفضل قطاع خاصّ أثبت قدرته على التأقلم مع المتغيّرات الاقتصادية والصمود، وحنوّ قلب لبنان الاغتراب على وطنه الأمّ، استطاع لبنان أن يثبت قدرة استثنائية، مع كلّ الصعاب وغياب السلطات عن أداء مهامّها، على إطلاق عجلة إعادة تكوين الذات. أسقطت مكوّنات السلطة السياسية الإصلاحات الضرورية المتوجّبة والمتوقَّعة منها من غير حسيب ولا رقيب، وذلك في سبيل الحفاظ على مكاسبها من الفساد. ولهذا السبب لن تُتَرجَم إنجازات القطاع الخاصّ نموّاً ونهضة اقتصادية، بل قدرة مميّزة على إنقاذ وإنعاش الذات والصمود فقط.

الممرّ الإلزامي لتحقيق كلّ ما ورد ذكره هو انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم إجرائه يعزّز من حصول “الارتطام الكبير” الذي قد يصل إلى عزلة لبنان عن الأسرة الدولية

سيبقى الاقتصاد الوطني يتأرجح تحت رحمة الظروف بانتظار أن تتحرّك السلطة السياسية بسرعة على نحو مسؤول بحيث تتوجّه إلى الشعب اللبناني بمسؤولية وشفافيّة وتبلغه بالأسباب الموجبة التي دفعت بالسلطة السياسية إلى إعلان التوقّف التامّ عن خدمة الدين العام في 7 آذار 2020 في ظلّ غياب تامّ لخطّة واضحة المعالم للتفاوض مع الدائنين من أجل إعادة هيكلة وجدولة الدين. تداعيات هذا التعثّر غير المنظّم معروفة من قبل الجميع، وترقى إلى درجة الجريمة بحقّ كلّ مواطن لبناني. لم يهلك هذا التعثّر المودع فقط، بل أهلك الاقتصاد والبلاد والعباد. هذا التقرير عن الأسباب الموجبة لهذا التعثّر هو الممرّ الإلزامي لإطلاق عجلة ترميم الثقة بين المواطن والدولة، وهو الأمر الأساسي في إعادة بناء الوطن وتكوين الاقتصاد، وبعدئذٍ سيكون من الممكن والمستطاع الاهتمام بالاستحقاقات الدستورية التي تُشكّل ركيزة أساسية في بناء الوطن. والخطوات الأساسية هي:
1- انتخاب رئيس الجمهورية لم يعد استحقاقاً دستورياً فقط، بل غدا استحقاقاً مصيرياً، ومن دونه لبنان ذاهب إلى المجهول.
2- تشكيل حكومة قادرة على إصدار وتنفيذ قرارات إصلاحية ضرورية.
3- إتمام التعيينات القضائية وغيرها في مراكز أساسية في الدولة.
4- تعيين حاكم يخلف رياض سلامة بعد انتهاء إقامته على مقعد رئاسة السلطة النقدية في 31 تموز 2023. إنّه الاستحقاق الأهمّ لأنّه في ظل عجز السلطة السياسية عن ممارسة الحوكمة الرشيدة في إدارة الشأن العامّ، سوف يُكلَّف مصرف لبنان بقيادة الاقتصاد الوطني إلى خارج هذه الأزمة كما كان الفاعل الأكبر في أيام الأزمة.
5- إعادة هيكلة مصرف لبنان من خلال إلغاء سلطة مصرف لبنان على لجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصّة، ومراجعة التعيينات الحالية في مصرف لبنان ولجنة الرقابة وهيئة التحقيق الخاصة قبل تعيين حاكم لمصرف لبنان لأنّه قد يكون من الضروري الذهاب أبعد من تعيين حاكم جديد فقط.

6- إجراء الانتخابات البلدية وإقرار القوانين الضرورية لتعزيز اللامركزية الإدارية.
7- إقرار قانون، في سياق إعادة انتظام العمل المصرفي، يجعل من كلّ الودائع بالليرة اللبنانية ودائع جاهزة ومتوفّرة غبّ الطلب لتوظيفها في تمويل فواتير الاستهلاك، ويجعل جميع الودائع بالعملة الأجنبية ودائع استثمارية ذات استحقاقات معيّنة تُحدَّد وفق حجم الوديعة، ويتوجّب تحويلها إلى العملة الوطنية على سعر صرف يعكس واقع الحال في الاقتصاد عند طلب الاستعمال (السحب قبل الاستحقاق). أمّا عند السحب في تاريخ الاستحقاق، فتدفع بعملة الإيداع أو يُعطى المودع خيار تحويلها إلى أسهم في المصرف (bail in).
8- إقرار قانون يُلزم جميع المؤسّسات (من تجارية وتعليمية وغيرهما) بتوطين رواتب موظّفيها في حسابات مصرفية بالليرة اللبنانية، ويفرض على المصارف العودة إلى ممارسة واعتماد الشمول المالي نهجاً أساسياً لعملها، وإلى العمل بوسائل الدفع المتاحة (بطاقات دفع، بطاقات ائتمان، شيكات، تحويل، …) بالحدّ الأدنى وبالليرة اللبنانية.
9- إصدار قانون يضبط الاستيراد العشوائي لمدّة سنتين أو أكثر للتخفيف من الطلب على الدولار والعملة الأجنبية وتعزيز الإنتاج المحلّي.
10- تفعيل العمل باتفاقية التبادل التلقائي للمعلومات من أجل محاربة التهرّب الضريبي (Common Reporting Standard – CRS) التي تضمّ ما يقارب 112 بلداً.

انتخاب الرئيس هو الممرّ الإلزامي
الممرّ الإلزامي لتحقيق كلّ ما ورد ذكره هو انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم إجرائه يعزّز من حصول “الارتطام الكبير” الذي قد يصل إلى عزلة لبنان عن الأسرة الدولية بسبب العقوبات التي قد تقرّها الإدارة الأميركية و/أو الأوروبية ضدّ البرلمانيين المعطِّلين عمداً انعقاد جلسات انتخاب الرئيس. وفي ظلّ هول ما قد يحدث من تطوّرات بسبب عدم انتخاب رئيس، يدور حديث جدّيّ عن توجّه نوّاب حاكم مصرف لبنان الأربعة إلى تقديم استقالاتهم لتفادي إلقاء مسؤولية هذا الارتطام عليهم، وقد لا يحصل. هذه المشهدية الضبابية تارة والسوداوية تارة أخرى تعطي مساحة إضافية للمضاربين والمحتكرين والمجرمين للتحكّم بالبلاد والعباد. 

إقرأ أيضاً: قانون “الأمر الواقع” للنقد والتسليف… والمصارف تلتزم

يعمل مصرف لبنان اليوم على ضمان انتقال “بارد”، من دون أيّ صدمات اقتصادية ونقدية سلبية، من الحاكم الحالي رياض سلامة إلى النائب الأول لحاكم مصرف لبنان وسيم منصوري بالتعاون التامّ مع جميع أعضاء المجلس المركزي لمصرف لبنان إلى حين تعيين حاكم جديد للمركز. وقد قام مصرف لبنان بالمستطاع في إدارة الأزمة فيما تابعت مكوّنات الطبقة السياسية أداءها المستهجَن. ويتزامن انتهاء إقامة رياض سلامة على رأس السلطة النقدية مع فراغ رئاسي، وتمّ تصنيف هذا الظرف الاستثنائي بالأزمة المرتقبة، ولذلك سوف يقوم مصرف لبنان باللازم لتبديد تداعياتها السلبية.

 

* خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…