قانون “الأمر الواقع” للنقد والتسليف… والمصارف تلتزم

مدة القراءة 7 د

في نهاية شهر تموز، قد يخرج رياض سلامة من حاكمية مصرف لبنان، لكنّ السياسة النقدية التي أرساها، وظهّرها في التعاميم التي أصدرها، سترسم ملامح قانون جديد للنقد والتسليف، بدأ تطبيقه، بشكل متناثر لكن مستمرّ، منذ 3 سنوات.

كلّ التعاميم التي أصدرها مصرف لبنان خلال الأزمة عنونها بـ”إجراءات استثنائية” تحت مظلة “إدارة الأزمة”، لكنّ تداعيات هذه التعاميم ستكون طويلة المدى، وسنأتي على ذكرها بالتفصيل.

فقد أُعطِيَ حاكم مصرف لبنان صلاحيات إستثنائية واستحق لقب “فخامة الحاكم”. بينما كان البرلمانيون منشغلين بالتفصيل والخياطة على حجم مكاسبهم وطموحاتهم السياسية، إنصرف مصرف لبنان لإعادة كتابة قانون النقد والتسليف اللبناني بأحرف الأزمة النقدية والمالية والإقتصادية وبروحية الفساد والفشل التي تتمتع به مكونات الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكمة بكل مرافق الحياة في لبنان.

في نهاية شهر تموز، قد يخرج رياض سلامة من حاكمية مصرف لبنان، لكنّ السياسة النقدية التي أرساها، وظهّرها في التعاميم التي أصدرها، سترسم ملامح قانون جديد للنقد والتسليف، بدأ تطبيقه، بشكل متناثر لكن مستمرّ، منذ 3 سنوات

ولا يوجد إثباتات على هذه الإنعطافة والانحراف في السياسات النقدية أكثر من ما تُظهره بعض التعاميم الأساسية لمصرف لبنان التي ولدت من رحم الأزمات.

التواريخ والإجراءات المشار إليها والمدونة في هذه التعاميم الأساسية لمصرف لبنان تُشكل المساحة والحدود التي يجب أن تُعتمد في أي خطة إنقاذ نقدي ومصرفي، ولكنها بعيدة جداً عن أي خطة إنقاذ إقتصادي أو/و مالي.

كل واحد من هذه التعاميم صدر بظروف وصياغة إستثنائية تٌبعد التهمة والمسؤولية عن السلطة السياسية وتضع مصرف لبنان ورئيس السلطة النقدية في الواجهة والمواجهة مع كل الأطراف؛ موقع ووضع لا يحسد عليها.

إليكم قراءة عملية، وليس قانونية، عن بعض التعاميم الأساسية التي سوف تكون الممر الإلزامي لأي خطة إنعاش و/او إنقاذ للقطاع المصرفي في لبنان:

– التعميم 150، تاريخ 9 نيسان 2020، هو تاريخ ولادة حسابات “الدولار الفريش” التي أعادت روحاً للقطاع المصرفي كان قد فقدها بعد التعثر الغير منظم في 7 آذار 2020. ولإعطاء مصداقية إضافية لهذه الحسابات، بعد أن فقدت المصارف كل الثقة التي كانت تتمتع بها، توجب على كل مصرف وضع مؤنة 100% من أرصدة هذه الحسابات لدى المصرف المراسل الذي يتعامل معه. ولكن من تداعيات هذا الإنفراج كان الحكم بالإعدام على الدولارات والأرصدة بالعملة الأجنبية في الحسابات المكونة والإيداعات المتممة قبل هذا التارخ، أي حسابات “الدولار المحلي”.  

– التعميم 151، تاريخ 21 نيسان 2020، هو تاريخ إستدراك مصرف لبنان لخطورة التعميم 150 وولادة “الدولار المحلي”، الإسم المعتمد من قبل السلطة النقدية، وحدد المركزي سعر صرف إستثنائي للسحوبات تحت أحكام هذا التعميم. المشكل ظهر بسبب عدم إقرار قانون الكابيتال كنترول آنذاك. كثيرون لا يعلمون بأن أول نسخة لهذا القانون وضعت على طاولة لجنة المال والموازنة واللجان النيابية في نيسان 2020 بعد صدور التعميم الأساسي 150، وحتى اليوم مازلنا بحالة “راوح مكانك” لجهة إقرار هذا القانون.

– التعميم 154، تاريخ 27 آب 2020، هو تاريخ ولادة خطة مصرف لبنان لإعادة هيكلة القطاع المصرفي والإضاءة على أمرين بغاية الأهمية. الأول هو الـ3% من أرصدة الحسابات المكونة بالعملة الأجنبية قبل تشرين 2019 (أي الدولار المحلي وليس الدولار الفريش) والتي يتوجب على المصارف في لبنان تأمينها نظيفة من أي إلتزامات وإيداعها لدى المصارف المراسلة لتعزيز أرصدتها لدى المصارف المراسلة. والأمر الآخر هو إلإجبار على إعادة: بين 15% من الأفراد، و30%، من كبار المساهمين والمعرضون سياسياً (Politically Exposed Persons – PEPs) من الأموال المحولة الى الخارج والتي نُفذت منذ تموز 2020 وتفوق الـ500000 دولار. والتهديد بمحاكمة من لا يلتزم بهذه الطلبات تحت أحكام قانون محاربة تبييض الأموال رقم 2015/44.

هذا التعميم هدف إلى فرز المصارف بين مصارف قادرة على الإستمرار في خدمة الإقتصاد وتوجب دعمها، وأخرى يجب معالجتها إما من خلال التصفية أو الاستحواذ. ولهذا السبب تم التعتيم على هذا التعميم وسُحِب من التداول من إهتمامات السياسيين والصحافة المتخصصة.

ذهب مصرف لبنان في هذه التعاميم الأساسية حيث لن ولم تجرؤ السلطة السياسية الحاكمة والمتحكمة: حدد المجلس المركزي لمصرف لبنان الودائع المؤهلة وغير المؤهلة

– التعميم 157، تاريخ 10 أيار 2021، هو تاريخ تأسيس، وليس إطلاق العمل بمنصة صيرفة. وحتى تاريخه، لم يشرح مصرف لبنان الأسباب الموجبه وراء إلزام جميع المصارف العاملة في لبنان على التسجيل على المنصة والخضوع لدورات تدريبية على تقنيات العمل على المنصة، ولكن ترك لكل مصرف حرية التداول عليها. الدولارات التي يصرفها مصرف لبنان للمستفيدين (اي المودعين) تحت أحكام هذا التعميم هي من أموال توظيفات المصارف التجارية لديه، أي أموال المودعين.

– التعميم 158، تاريخ 8 حزيران 2021. إنه القرار الأول الذي هدف، مع سابق إصرار وتصميم، على رسم حدود الودائع المؤهلة وخصصها بقسط من الدولارات الفريش، والودائع الغير مؤهلة أبقاها تحت الإقامة الجبرية في الحسابات المصرفية تواجه مصير الإستبعاد النقدي. 

– التعميم 161، تاريخ 16 كانون أول 2021، هو التعميم الذي وظف منصة صيرفة لصرف رواتب وأجور القطاع العام على سعر صرف مدعوم، ويعمل به فقط لمدة شهر قابلة للتعديل بأحكامه، تجديد العمل بها، او إلغائها. وهذا التعميم مُلزم لجميع المصارف (عكس التعميم 157 الذي ترك للمصارف حرية التداول على منصة صيرفة) التي لديها حسابات رواتب وأجور للقطاع العام. الدولارات التي يصرفها مصرف لبنان تحت أحكام هذا التعميم يحصل عليها المركزي من السوق الموازي وليست من توظيفات المصارف لديه بالعملة الأجنبية، أي ليست أموال المودعين.

– التعميم 165، تاريخ 19 نيسان 2023، ولد من رحم الضغوطات على لبنان من قبل الأسرة الدولية ومجموعة العمل الدولية (Financial Action Task Force – FATF) للقرار إجراءات للتخفيف من الإعتماد على الأوراق النقدية في الإقتصاد المحلي لتضييق المساحة على من يسعى لتبييض الأموال. وأسس له التعميم الأساسي 150. هذا التعميم يمكن  المواطن اللبناني (فرد ومؤسسة) من  العودة إلى إعتماد وسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي (شيكات، بطاقات دفع، تحويل، إلخ.). كان من الواجب على مصرف لبنان التحرك لإحداث هذه الإنعطافة على الساحة النقدية لتخفيف وتجفيف التداول بالأوراق النقدية التي تحول لبنان إلى جنة لتبييض الأموال وتعطي مساحة واسعة للمضاربين والمحتكرين للتحكم بسعر صرف الليرة في السوق الموازي. وقد يكون هذا التعميم خطوة أساسية لإطلاق عجلة إعادة ترميم الثقة بالقطاع المصرفي.

ذهب مصرف لبنان في هذه التعاميم الأساسية حيث لن ولم تجرؤ السلطة السياسية الحاكمة والمتحكمة: حدد المجلس المركزي لمصرف لبنان الودائع المؤهلة وغير المؤهلة:

– حدّد عدداً من أسعار الصرف التي تُستعمل في المعاملات الرسمية والسحوبات الإستثنائية من الودائع المعنونة بالعملة الأجنبية.

– حدّد حدود لسحب من الحسابات المكونة بالعملة الأجنبية.

إقرأ أيضاً: كيف وفّرت الدولة 7 مليارات دولار سنوياً؟

– أنشأ عملة جديدة أطلق عليها إسم “الدولار المحلي” واعطى للمجلس المركزي لمصرف لبنان صلاحية مطلقة في تحديد سعر هذا الدولار وكيفية التعامل به في السحوبات والدفع.

– غضّ النظر عن ارتكابات مصرفية لم تلتزم بقانون النقد والتسليف وقانون الموجبات والعقود، لكنّها تلتزم اليوم بقانون النقد والتسليف الجديد، غير المعلن.

*خبير في المخاطر المصرفية، وباحث في الإقتصاد

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…