تركيا دولـة عـظـمـى؟

مدة القراءة 5 د

تُسجّل الانتخابات الأخيرة نقطة إيجابية لصالح الديمقراطية في تركيا وحقّ الشعب في تقرير مصيره وشكل الحكم الذي يريده. فبعدما أجرت تركيا عام 2019 انتخاباتها البلديّة والمحليّة والمناطقيّة التي فازت فيها المعارضة بأكبر 11 بلدية، وبينها إسطنبول وأنقرة، وألحقت بالحكم “صفعة معنوية”، أجبرت الانتخابات الرئاسية، للمرّة الأولى بتاريخ تركيا، الرئيس التركي رجب طيب إردوغان على خوض جولة ثانية بعدما تعذّر عليه نيل 50% من أصوات الناخبين بالدورة الأولى.

بين الدورتين الأولى والثانية اختلفت شعارات الانتخابات التي تبنّاها إردوغان. ففي الأولى ركّز على الأوضاع الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي ضعضعت قوّته، قبل أن يتحوّل في الجولة الثانية إلى إذكاء الشعور القومي المترافق مع أيديولوجية إثنيّة.

تُسجّل الانتخابات الأخيرة نقطة إيجابية لصالح الديمقراطية في تركيا وحقّ الشعب في تقرير مصيره وشكل الحكم الذي يريده

أردوغان “الضعيف”؟

عاكست مسبّبات كثيرة توقّعات إردوغان في الدورة الأولى، فأدّت إلى ما أدّت إليه وجرّته إلى دورة ثانية غير مسبوقة. ونعدّد منها:

1- التضخّم المتصاعد في ظلّ سياسة فوائد مرتفعة لامست 19%.

2- انهيار العملة التركيّة (وصلت إلى ما يقارب 20 ليرة للدولار الواحد).

3- انخفاض القدرة الشرائية للشعب التركي، ولا سيّما الفئات ذوي الدخل المحدود.

4- بدّل إردوغان عدّة مرات (في فترة وجيزة) حاكم المصرف المركزي.

5- الكلفة العالية لاستيراد الموادّ الأوّلية الضرورية للصناعة التركية، وهو ما أدّى إلى انخفاض التصدير.

6- تضخّم عدد اللاجئين مقابل 7 مليارات دولار من الهيئات الدولية المانحة.

7- أثر كورونا وبعده الزلازل على السياحة وحرمان تركيا من المليارات.

“العصا السحريّة”

أثّر نهج الرئيس إردوغان الإقليمي والدولي على الانتخابات، وكان له انعكاس مباشر على الاقتصاد وتراجع نموّ الدخل الوطني. فهو حاول طوال عشرين عاماً دفع الدولة التركيّة إلى لعب دور أكبر من إمكاناتها، فارتدّت سياسته تلك خيبات تأثّر بها الاقتصاد، ومن أوجُه هذه السياسة:

1- تدخّله المستمرّ بالعراق وسوريا من دون أفق للانسحاب أو إجراء تسويات وحلول.

2- انغماس تركيا في الصراع الليبي – الليبي واضطراره إلى مدّ أطراف بالسلاح والمال.

3- زيادة تدخّله في ليبيا أدّت إلى قطع الطريق على تعاونه مع إيطاليا بمجال الطاقة.

4- حمايته لجماعة الإخوان المسلمين وضع دولته بوجه مصر.

5- صراعه مع إيران داخل قطاع غزّة وصرفه مبالغ طائلة، وفي النهاية تفوّقت عليه طهران في القطاع.

على وقع كلّ ما سلف، يحتاج إردوغان إلى عصا سحرية. فإذا كان الأكاديمي ووزير الخارجية الأسبق ورئيس الحكومة الأسبق أحمد داود أوغلو قد تحدّث يوماً عن “استراتيجية صفر مشاكل”، فإنّ وضع اليوم قائم على “عشرات المشاكل”

6- حارب مدّ أنابيب غاز من مصر مروراً بقبرص وصولاً إلى اليونان وجنوبي أوروبا.

7- استمرار اعترافه بدولة “شمالي قبرص” على الرغم من أنّ تصويت الأتراك هناك أتى لمصلحة منافسه مرشّح المعارضة كمال كليجدار أوغلو (بنسبة 53 %)، ورفض أتراك هذه الجزيرة إنشاء دولة اتحادية مع قبرص اليونانية المنضوية في الاتحاد الأوروبي.

8- التدخّل في الشؤون العربية والخليجية.

9- وتّر الأجواء في بحر إيجة وتغذية الصراع التقليدي مع اليونان حول الجزر وسيادتها.

10- دعم بعض دول البلقان، ومنها البوسنة والهرسك وكوسوفو، تقويضاً لأمن أوروبا واستقرارها.

11- تدخّل باستمرار في الشأن الفرنسي من باب حماية الجمعيات المتعدّدة الأهداف، ومنازلة فرنسا من خلال تحفيز الشارع على حكوماتها.

12- على منوال ما فعله مع فرنسا، حرّك المواطنين الألمان من أصل تركي بوجه الحكم المركزي في برلين.

13- عارض انضمام السويد إلى الحلف الأطلسي وطالبها بتسليمه معارضين من دون أن يحدّد هويّتهم.

14- ابتزّ فنلندا وحلف الناتو حتى يرفع الفيتو عن انضمام هلسنكي إلى الحلف الأطلسي.

15- الدخول في “كباش” مع واشنطن بشأن طائرات “إف 16″، وفرض الأخيرة عقوبات عليه بعد استيراده نظام إس – 400 للدفاع الجوّي من موسكو.

16- تهديد الرئيس إردوغان الدائم بإغلاق قاعدة إنجرليك الجوّية، وهو ما دفع واشنطن إلى التقليل من دورها، فيما يدأب البنتاغون على نقل بعض مهامّها إلى قواعده في البحر المتوسط.

17- محاولته مدّ أوكرانيا بالسلاح والإبقاء على علاقة بحدود معيّنة مع روسيا، لكنّ الأخيرة لا تثق به تماماً، وقد جدّدت انتقاداتها له بسبب عودته إلى مدّ كييف بالسلاح، وأوقفت مرّتين اتفاقية تصدير الحبوب عبر مضيقَيْ البوسفور والدردنيل لأسباب تتعلّق بأنقرة لا بشحنات أوكرانيا.

18- لا ترتاح موسكو لتدخل إردوغان في النزاع الأرميني – الأذربيجاني.

19- تنظر موسكو بعين الريبة إلى التدخّل التركي في دول آسيا الوسطى وتشجيع النزعة التركمانية.

إقرأ أيضاً: أفول “النموذج التركيّ”

صفر مشاكل VS عشرات المشاكل

على وقع كلّ ما سلف، يحتاج إردوغان إلى عصا سحرية. فإذا كان الأكاديمي ووزير الخارجية الأسبق ورئيس الحكومة الأسبق أحمد داود أوغلو قد تحدّث يوماً عن “استراتيجية صفر مشاكل”، فإنّ وضع اليوم قائم على “عشرات المشاكل”. هناك عقليّة دوغمائية – أيديولوجيّة راسخة تحتاج إلى تغيير في خلال الولاية الجديدة، وإلا فإنّ الحلول ستكون بعيدة عن الواقعية، والارتقاء من دولة وسطى إلى مصافي الدول العظمى سيبقى بعيد المنال. حلُّ هذه المشاكل ضروريّ أوّلاً قبل الحديث عن تركيا “الدولة العظمى”.

مواضيع ذات صلة

السّودان: إيران وروسيا تريدان قواعد عسكريّة

يغطّي غبار القصف الإسرائيلي على غزة ولبنان صور المأساة المروّعة التي تعصف بالسودان، أكبر دولة عربية من حيث المساحة. فقد اضطرّ حتى الآن خُمس السكان،…

هل يتذكّر ترامب وعده للّبنانيّين… ويبعد إسرائيل وإيران؟

أيّ دونالد ترامب في البيت الأبيض مجدّداً؟ سيعتمد الكثير على فريق العمل الذي سيشكّله، لكنّ الأكيد أنّ هناك نقطتين، مرتبطة كلّ منهما بالأخرى، لا بدّ…

ترامب رئيساً.. هل ستغيّر الوعود هذا العالم؟

اعتدنا أن نسمع، من جديد، في موسم الانتخابات الرئاسية الأميركية، عن مزاج الولايات المتأرجحة السبع التي تحدّد عادة وحدها من يدخل البيت الأبيض. لكنّنا في…

السّيستاني لإيران: السّلاح بيد الدّولة فقط

لم يخرج الكلام الصادر عن المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف عن الإطار المحدّد لمواقفها في ما يتعلّق بالأوضاع الداخلية العراقية والتحدّيات التي يواجهها هذا…