فشلت الانتخابات التركيّة الأخيرة، التي فاز فيها الرئيس رجب طيب إردوغان بولاية رئاسية جديدة من خمس سنوات، في إحياء الألق الذي حملته الديمقراطية التركيّة، أكان بالنسبة لهذا البلد الإسلامي الكبير نفسه أم بالنسبة للمدى الإسلامي الاستراتيجي لتركيا. لطالما اُستُلهمت التجربة التركيّة، منذ صعود نجم حزب العدالة والتنمية، من قبل الإسلاميين العرب لقدح النظام العربي المحافظ. بعض هذا الألق كان في صميم تفاعلات الربيع العربي من أطراف الخليج العربي إلى شواطئ المغرب الأطلسية، مروراً بمصر التي نجح الإخوان في الوصول إلى الحكم فيها قبل الإطاحة بهم عبر ثورة “يوليو 2013”.
تصدّع الفكرة الديمقراطية
بيد أنّ الكثير تغيّر طوال نحو عقدين من الزمن، بحيث باتت الانتخابات التركيّة الأخيرة دليلاً على كلّ ما هو إشكاليّ في الفكرة الديمقراطية نفسها التي تعاني من صدوع كبرى في العالم أجمع.
تواجه الديمقراطية الليبرالية، المتجذّرة في الفكر السياسي الغربي، جبلاً من التحدّيات يبدأ من تآكل الثقة بالمؤسّسات التي ضربتها فضائح الفساد والزبائنيّة (كفضيحة قطر-غايت ورشوى كبار الموظّفين في برلمان الاتحاد الأوروبي في بروكسل)، واختلال الفوارق الاقتصادية بعد الانهيار الماليّ عام 2008، ثمّ تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن كوفيد-19 والحرب الروسية الأوكرانية، واضطراب الفضاء المعلوماتي والإخباري بسبب التطوّر التكنولوجي الهائل وازدهار المعلومات المضلّلة التي جعلت من الحقائق مجرّد وجهات نظر. في ظلّ هذا المناخ من انعدام الثقة شكّل صعود الشعبوية السياسية، خطراً مضافاً، حيث يستغلّ السياسيون العمليات الديمقراطية لتوطيد السلطة، بينما يقوّضون سيادة القانون والوحدة المجتمعية، كما حصل في نهاية ولاية الرئيس دونالد ترامب وكما يحصل الآن في إسرائيل بنيامين نتانياهو، وكما حصل في انتقال النظام السياسي التركيّ بقيادة إردوغان نفسه، من النموذج البرلماني إلى نموذج رئاسي بصلاحيّات مطلقة قرّبت النظام التركي من نظام الرجل الواحد.
باتت الانتخابات التركيّة الأخيرة دليلاً على كلّ ما هو إشكاليّ في الفكرة الديمقراطية نفسها التي تعاني من صدوع كبرى في العالم أجمع
يحصل كلّ ذلك في وقت يواجه فيه النظام الدولي الليبرالي، تحدّيات عملاقة لا تني تختبر الديمقراطية الليبرالية بشكل أكبر، تتمثّل في نجاح الأنظمة غير الديمقراطية في تقديم قصّة نجاح بديلة كالصين، واستفحال الحروب التجارية وتهديدها للنموّ والوظائف وأنظمة الرفاه الاجتماعي في الغرب (راقب مثلاً ما يحصل في فرنسا لجهة معركة سنّ التقاعد)، والشقاق الدولي الذي تحدثه القضايا العالمية مثل تغيّر المناخ والفلسفات الجندريّة.
تقويض إردوغان للقيم الديمقراطية
تجلّت هذه الحزمة من التحدّيات ونقاط الضعف بوفرة في التجربة الديمقراطية التركيّة، في ظلّ إردوغان، الذي نجح في تقويض القيم الأساسيّة للديمقراطية الليبرالية، وأفقد نموذجها التركي قدرته على الجذب والإبهار.
صحيح أنّ إردوغان فاز بنسبة 52% من الأصوات، في إشارة إلى حدّة التنافس، وصحيح أنّ الإقبال على الاقتراع شهد نسباً شاهقة بالمقارنة مع التجارب الديمقراطية عامّة مع تسجيل نسبة تصويت بلغت 88%، إلا أنّ التدقيق في المشهد الانتخابي التركيّ، يكشف أنّنا أمام عملية مشوّهة افتقدت للتوازن والنزاهة.
فقد تركّزت سلطة أجهزة الدولة والقضاء ووسائل الإعلام في أيدي حزب العدالة والتنمية الحاكم، لا بل في أيدي إردوغان وفريق حكمه، بالتوازي مع سياسات مثابرة لسنوات أدّت إلى خنق منظّمات المجتمع المدني بشكل فعّال، وكبح الاستقلال الأكاديمي، وقمع المعارضة، وهو ما بدّد الكثير من الملامح الليبرالية للديمقراطية التركيّة. ولعلّ أبرز مثالين على ذلك هما أوّلاً توظيف البنك المركزي التركي في خدمة إردوغان عبر تمويل عمليّات ماليّة مكلفة بهدف تثبيت نسبيّ لسعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار طوال ستّة أشهر قبل موعد الانتخابات التركيّة، بغية خلق انطباع زائف بنجاعة المعالجة الاقتصادية والماليّة للرئيس، ولو على حساب تبديد احتياطات الدولة بالعملة الصعبة. أمّا النموذج الثاني فهو توظيف القضاء في خدمة منع أبرز معارضي إردوغان من الترشّح وهو رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، بذريعة “الخطاب المسيء”، وبالتالي إزاحة صاحب الحظّ الأوفر في تهديد استمراريّة إردوغان في السلطة.
وعليه تحوّلت الانتخابات التركية المشوّهة إلى آليّة لترسيخ السلطة في يد شاغلها وتجديد دورة من الحكم الذي تميّز بالكثير من الاستبداد تحت ستار الديمقراطية.
علاوة على ذلك، فإنّ حملة إردوغان الشعبوية القائمة على توظيف الخطاب القومي (العثماني الإسلامي) والتحريضي (تهم الإرهاب لخصومه) والاستثمار في المخاوف القيميّة والثقافيّة للريفيّين (عنوان المثليّة الجنسية)، تشبه الحملات التي باتت تُدرَّس في علوم السياسة بأنّها صنو المخاطر والتهديدات التي تحيق بالديمقراطية الليبرالية وتُضعف أسسها. ولا ينفصل عن ذلك أنّ سياسة إردوغان الخارجية بدت أكثر تفضيلاً للعلاقة مع دول مثل روسيا والصين، من العلاقة مع الديمقراطيات الغربية في أميركا وأوروبا، وهو ما يلقي بظلال من الشكّ على مدى التزامه الحقيقي بقيم الديمقراطية الليبرالية، وما إذا كانت الديمقراطية مجرد آليّة يعبر بها نحو الحكم.
عيوب مانعة في الخليج ومصر
تفسّر هذه العيوب الكبيرة للديمقراطية التركيّة، مضافة إلى الانهيار الاقتصادي التركي، والحصيلة المدمّرة للربيع العربي، عدم قدرة التيارات الإسلامية واليسارية، ولا سيّما في دول مجلس التعاون الخليجي ومصر، على تجديد الشهيّة الشعبية للنموذج التركي، أو إحياء السرديّة الرومانسية للتلاقي بين الديمقراطية والإسلام السياسي، كبديل عن أنظمة الحكم القائمة.
إقرأ أيضاً: من هزم كيليشدار أوغلو؟
زد على ذلك أنّ إردوغان بدأ منذ نحو سنتين البحث عن مخارج لمحنة بلاده وارتباك سيرته الشخصيّة، بالتحوّل نحو التفاهم مع هذه الدول نفسها، التي نجحت في تقديم قصص نجاح اقتصادي وتنموي مثل السعودية والإمارات، خارج الأطر الديمقراطية. لقد باتت تقف هذه الدول كنموذج بديل يعبّر عن فكرتَيْ النموّ الاقتصادي والاستقرار، خارج الانتخابات والديمقراطيّات المرتبكة، في حين تعاني تركيا من انهيار الليرة وارتفاع معدّلات التضخّم وعزوف الاستثمارات الأجنبية بسبب عدم الثقة بالقضاء والمؤسّسات، وهجرة النُخب.
الحقيقة الساطعة التي أنتجتها الانتخابات التركية تفيد حتى إشعار آخر أنّ المثال الديمقراطي الذي تيسّر لتركيا تمثيله ردحاً من الزمن بات لحظة من لحظات ماضٍ مضى ولا شيء يشير إلى عودته قريباً.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@