تواسي قيادات المعارضة التركية ورموزها نفسها بنفسها بإعلان أنّ نصف أصوات الناخبين الأتراك ما زالت تدعم التغيير في تركيا، وأنّ أنقرة وإسطنبول وإزمير أكبر المدن التركية ما زالت تحت سيطرتها.
التحق الكثير من السياسيين ووسائل الإعلام داخل تركيا وخارجها بنادي الخاسرين في المراهنة على كمال كيليشدار أوغلو في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية التركية. وأصبح التكويع في ذروته لدى الكثيرين عبر الاتصالات وبرقيات التهنئة ووعود الزيارات المتبادلة القريبة بين الرئيس رجب طيب إردوغان والمتّصلين به. فمتى تلتزم قيادات الطاولة السداسية بهذا المسار أيضاً وتقبل الهزيمة أم ستتجاهل أيضاً حفل أداء اليمين الدستوري وتتغيّب عنه وتغفل عن حقيقة صعوبة مواصلة الطريق مع كيليشدار أوغلو والرهان على الفوز من خلاله بعد 5 سنوات وأنّ من هزم رئيس حزب الشعب الجمهوري التركي ومحرّك الطاولة السداسية المعارِضة في معركة الانتخابات الأخيرة هم الشركاء والحلفاء قبل أن يهزمه الرئيس إردوغان؟
لهذه الأسباب خسرت المعارضة
خسرت المعارضة لأنّ وصفة الطعام التي اختارتها والمقادير التي استخدمتها وطريقة التحضير لم تعجب الناخب التركي ولم تقنعه.
إنّ خيبة الأمل التي عاشتها قوى المعارضة التركية ليلة 14 أيار بعد هزيمة البرلمان شوّشت أفكارها ودفعتها نحو اعتماد خيارات خاطئة خلال الأسبوعين الفاصلين عن جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية. أخرج كيليشدار أوغلو من القبّعة رئيس حزب النصر القومي المتشدّد أوميت أوزداغ ليطيح بما بقي له من فرص وآمال فهُزم من جديد. ستظلّ المعادلة الانتحارية التي اختارتها الطاولة السداسية تطارد قياداتها لسنوات: إمّا إعادة اللاجىء السوري فوراً إلى بلاده وأراضيه لأنّه غير مرغوب به في تركيا، وإمّا أن تتحوّل المدن التركية إلى كانتونات سورية تهدّد البنية التحتية للبلاد. لم يعجب تحريك أخطر المعادلات الاجتماعية والإنسانية على هذا النحو أنصار كيليشدار أوغلو أنفسهم.
أضاف إردوغان “باي باي” ثالثة وهو يخاطب كيليشدار أوغلو ليلة الأحد المنصرم: “هزمناك في 3 جولات انتخابية رئاسية فحان وقت ذهابك إلى كرسي التقاعد الهزّاز”. فهل تتجاهل قيادات وكوادر حزب الشعب الجمهوري خسارة زعيمها هذه؟
يدفع كيليشدار أوغلو ثمن “التخبيص” السياسي الذي تسبّب به في الأشهر الأخيرة. جمع الكثير من العقود والبروتوكولات مع قيادات وأحزاب سياسية وتعهّد بتنفيذها عند فوزه
حصل إردوغان على ما أراد بحنكته وخبرته السياسية، لكنّ المعارضة مشكورةً ساعدته في ذلك نتيجة كلّ ما بذلته من جهد ورفعته من شعارات وبنته من تحالفات جديدة في الأيام الأخيرة.
يقول كيليشدار أوغلو: ما زلنا هنا والمواجهة مستمرّة. ويردّد حليفه أحمد داوود أوغلو رئيس حزب المستقبل أنّ نصف المجتمع التركي ما زال يدعم التغيير وأنّ على حزب العدالة والتنمية أن يقبل ذلك. في مقدورهما أن يعلنا ما يريدان شرط الانتظار لخمس سنوات أخرى وأن يسمح حزب كيليشدار أوغلو له بالبقاء في مقعده.
هزمت المعارضة التركية نفسها قبل أن يهزمها إردوغان وتحالف الجمهور. دعم حوالي 90 في المئة من أنصار حزب العدالة والتنمية خيار الإنجازات الداخلية والخارجية والثقة بإردوغان والمواصلة معه، بينما خسر 90 في المئة من داعمي كيليشدار أوغلو الرهان على التغيير والوعود التي أطلقها وخيار التعويل على عامل أوميت أوزداغ للتفريج عنهم وتسهيل وصولهم إلى السلطة.
الثمن الباهظ
قرّر كيليشدار أوغلو تغيير خططه في مواجهة إردوغان خلال الجولة الثانية للانتخابات، لكنّه دفع الثمن باهظاً يوم الأحد المنصرم. كان يمنّي النفس بالتقاط صورة تذكارية تجمع رموز الطاولة السداسية وقيادات حزب الشعوب الديمقراطية ورئيس حزب النصر أوميت أوزداغ، لكنّ الأحجار التي حرّكها بهذا الاتجاه انهارت وتسبّبت بفاجعة حزبية وسياسية في صفوف قوى المعارضة التركية لن تستفيق من صدمتها لأسابيع طويلة.
يدفع كيليشدار أوغلو ثمن “التخبيص” السياسي الذي تسبّب به في الأشهر الأخيرة. جمع الكثير من العقود والبروتوكولات مع قيادات وأحزاب سياسية وتعهّد بتنفيذها عند فوزه، وربّما كانت هي السبب في إغضاب الناخب المعارض الذي شعر أنّ المسألة تتحوّل إلى بازار سياسي لا يعرف أين سيتوقّف وكيف سينتهي. فقد منح الأحزاب الصغيرة التي نسّقت معه في تحالف الأمّة 35 مقعداً برلمانياً مجّانياً لم تكن لتحلم بها من حصّة حزبه في المجلس النيابي الجديد. وترك أوميت أوزداغ يتلاعب به في ملفّ اللجوء السوري بحيث جرجره من خلفه على طريق التطرّف والتشدّد. وأهدر فرصة بقاء قواعد حزب الشعوب الديمقراطية إلى جانبه، فكان عليه أن يدفع الثمن.
صحيح أنّ إردوغان لم يحسم نتيجة الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى، وأنّ أصوات حزبه وعدد مقاعده في البرلمان تراجعت، وأنّ احتمال إشراك حلفاء تكتّل الجمهور في الحكم بمقاعد وزارية بحيث تتحوّل الحكومة إلى ائتلافية متعدّدة الخلفيّات والتوجّهات الحزبية، هو بين السيناريوهات التي سنعرف الإجابة عنها في الساعات المقبلة، إلّا أنّ إردوغان هو الذي تمكّن من الفوز للمرّة الثالثة في معارك الانتخابات الرئاسية، وللمرّة الثالثة عشرة في مواجهة قوى المعارضة في صناديق الانتخابات البرلمانية والمحلّية.
بين إنجازات إردوغان السياسية كان نجاحه في إقناع كيليشدار أوغلو أن يكون هو منافسه في معركة الانتخابات الرئاسية، وساعدته قيادات الطاولة السداسية في أخذ ما يريد. أعطته قوى المعارضة أيضاً فرص الكشف عن الكثير من الخطوات والقرارات الاقتصادية والمعيشية وكسب صوت المتضرّر التركي من كارثة الزلزال في مدن جنوب البلاد في الجولة الثانية، بعدما صعّد بعض أصواتها وداعميها انتقاداتهم لمن لم يصوّت لهم في المناطق المنكوبة. لم تتأخّر قواعد حزب الشعوب الديمقراطية أيضاً في تسهيل فوز إردوغان بفارق كبير على منافسه من خلال قرار عدم الذهاب إلى الصناديق في مناطق جنوب شرق تركيا، بسبب التنسيق الأخير بين كيليشدار أوغلو وأوزداغ وعلى الرغم من كلّ نداءات وتحذيرات قياداتها السياسية.
لم يدعم الناخب التركي شعار التغيير على طريقة المعارضة دافعاً باتجاه إزاحة إردوغان وحزبه. لكن بناءً على الأرقام والمعطيات والوعود التي قطعها تحالف الجمهور للمواطن التركي، سيختار هو شعار التغيير والتجديد على طريقته في الداخل والخارج استعداداً لمعركة الانتخابات المحلية في شهر آذار المقبل، إذا ما كان يريد استرداد مدينتَيْ أنقرة وإسطنبول من يد حزب الشعب الجمهوري.
قد لا يريد إردوغان الخروج سريعاً من أجواء الانتخابات التركية. يريد أن يستنزف المعارضة وزعيمها كيليشدار أوغلو حتى النهاية. فما دامت الفرصة سانحة والخصم في تراجع فإنّ مواصلة التقدّم قد لا تُعوّض. ربّما يكون هذا المنطق السياسي مقبولاً. لكنّ ترك قوى المعارضة تصفّي حساباتها فيما بينها وإبقاء كيليشدار أوغلو على رأس الطاولة السداسية وحزب الشعب الجمهوري والرقص على أكثر من إيقاع والمتابعة عن بعد، قد تكون أفضل بكثير لإردوغان من قدوم قيادي آخر لا يعرف كيف سيتصرّف، وقد يتسبّب في إعادة خلط أوراق تكتّل المعارضة وتوحيد صفوفها من جديد. فمنافسك الذي تعرفه أفضل بكثير من خصمك الذي لا تعرفه.
إقرأ أيضاً: تركيا: كيليشدار أوغلو.. التانغو الأخير؟
رفعت المعارضة بيرق العصيان باكراً. اختيار 27 مليون ناخب رئيس الدولة مسألة مهمّة ينبغي قبولها واحترامها بالعرف الديمقراطي. لكن ألن نحترم رغبة وإرادة 25 مليون ناخب صوّتوا بالاتجاه الآخر؟ خلال البحث عن إجابة سياسية على السؤال دخل زعيم حزب المستقبل وشريك الطاولة السداسية المعارض أحمد داوود أوغلو على الخطّ ليوجّه صفعة لحليفه كيليشدار أوغلو قبل يومين. فقد دعا حلفاء الطاولة السداسية من الأحزاب الصغيرة مثل السعادة وديفا والحزب الديمقراطي إلى تشكيل مجموعة برلمانية مستقلّة عن حزب الشعب الجمهوري وحزب “إيي” القومي الذي تقوده ميرال أكشينار، وكان بدعوته تلك كأنّه يدفن الميت قبل الصلاة عليه!
لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@