تنشغل الفضائيات العالمية ووكالات الأنباء بقضيّتين هذه الأيام:
– بلوغ هنري كيسنجر عامه المئة وعنده بعد كتابان على وشك الصدور: عن مستقبل العالم ومستقبل النظام الدولي، وعن الذكاء الصناعي.
– أمّا القضية الأخرى فهي ازدياد حدّة التجاذُب بين أميركا والصين.
في المقابلة الطويلة التي أجرتْها معه مجلّة “إيكونومست” لا تشغل كيسنجر غير خصومة الولايات المتحدة مع الصين. وهو يرى أنّ جوهرها بين الطرفين يكمن في التنافس الاقتصادي. وهناك في نظره قناعتان مستقرّتان لدى الأميركيين ولدى الصينيين.
– الأميركيون مقتنعون منذ أيام ترامب أنّ الصين من خلال مبادرة الحزام والطريق (2013) تريد الاستيلاء على الاقتصاد العالمي.
– أمّا الصينيون فهم مقتنعون أنّ الولايات المتحدة لا تريد الاعتراف بهم شريكاً مقرّراً في النظام العالمي، وفي الاقتصاد العالمي.
لا بدّ من العودة إلى طاولة المفاوضات مهما كلّف الأمر، ولا بدّ من الاعتراف بالمصالح الصينية إذا أُريد للتفاوض أن ينجح أو للتوتّر أن ينخفض
هاتان القناعتان من وجهة نظره غير صحيحتين، لكنّه لا يعرف بالتحديد ما هي السياسات التي ينبغي اتّباعها من جانب الطرفين للخروج من هذا الطريق المسدود. ماوتسي تونغ، بحسب كيسنجر، قال لنيكسون وله عام 1972 إنّ مسألة تايوان لن تطرحها الصين قبل مئة عام. لكن الآن، وبعد خمسين عاماً فقط، تطرح الصين القضية بقوّة. وجاءتها الحرب الروسيّة على أوكرانيا مثل “شحمة على فطيرة”! إذ يرى السياسي العريق أنّ الصين تصعّد في المسألتين من أجل القضيّة الثالثة: الشراكة مع أميركا على رأس النظام العالمي.
“الحكمة” بين الصين وروسيا وأميركا
يعتبر كيسنجر أنّ الصينيين الكونفوشيوسيّين أكثر حكمة من الأميركيين ومن الروس، فهم لا يهدّدون بـ”النووي” ولا يريدون استخدامه بخلاف الروس. التهديد بـ”النووي” هو دليل ضعفٍ لا قوّة. وإذا كان الصينيون يرتهنون قضيّة تايوان وقضية الحرب التي يحتاج الغرب إلى وساطتهم فيها، فإنّهم يعلمون أنّ أميركا والأوروبيين متفوّقون أو ما يزالون متفوّقين في الاقتصاد وفي العسكر. لكنّ تفوّقهم غير قابلٍ للاستخدام في المدى القريب على الأقلّ.
إذاً الطرفان محكومان بخفض التوتّر بسبب المصالح المتبادلة أو التي ينبغي أن تكون متبادلة. الأميركيون تجمّدوا عند سياسات رئيسهم السابق دونالد ترامب، لكنّ اللهجة الدعائية مختلفة فقط. أمّا الخلافات فإنّهم يسعّرونها من مثل أنّ الصين تريد زيادة ترسانتها النووية إلى ألف وخمسمئة رأس خلال عشرين عاماً.
لهذا لا بدّ من العودة إلى طاولة المفاوضات مهما كلّف الأمر، ولا بدّ من الاعتراف بالمصالح الصينية إذا أُريد للتفاوض أن ينجح أو للتوتّر أن ينخفض. وعلى الرغم من أنّه يزعم أنّه لا يعود للماضي (وهو متخصّص في السياسات الدولية بالقرن التاسع عشر في الأصل)، لا يلبث أن يعود أدراجه ويذهب إلى أنّ الوضع الحالي تغييريّ إلى حدّ كبير.
فبعد عام 1815 وهزيمة نابليون في واترلو، أُقيم نظام دولي جديد، ما تغيّر خلال مئتَيْ عام وإنّما سادت فيه أميركا خلال المئة عام الأخيرة. هي محطّة جديدة للنظام العالمي، تعود فيه آسيا بزعامة الصين إلى قلب العالم. الهند القوّة الاقتصادية الكبيرة حائرة، فهي لا تريد الانضواء تحت الراية الصينية بالطبع وتعتمد أميركا على ذلك، لكنّ الهند تتعامل مع روسيا في الغاز والبترول وحتى في استيراد بعض أنواع الأسلحة. ووضع تركيا، وهي قوّة أصغر بكثير من الهند، أفضل لحاجة الجميع إليها. وقد اكتسب إردوغان قوّةً جديدة بفوزه في الانتخابات، وسيظلّ في الناتو، وستظلّ روسيا محتاجةً إليه، وربّما العرب.
هذه هي المواقع والموضوعات التي اهتمّ لها كيسنجر. ويظلّ كعادته سيّء الرأي بأوروبا وقراراتها وقدراتها. وهي على أيّ حال محتاجة جدّاً إلى الولايات المتحدة، شأن الدول الأخرى الخائفة من روسيا أو من الصين. في التحالفات العسكرية والاقتصادية فائدة، لكنّها محدودة، ولا بدّ من التعامل المقبول والإيجابي مع الصين أو لا تفيد التحالفات شيئاً في المدى المتوسط.
يعتبر كيسنجر أنّ الصينيين الكونفوشيوسيّين أكثر حكمة من الأميركيين ومن الروس، فهم لا يهدّدون بـ”النووي” ولا يريدون استخدامه بخلاف الروس
ماذا عن منطقتنا؟
هنا في شرق المتوسّط مشكلاتنا مختلفة تماماً. فلدينا أوّلاً المشكلة المستمرّة مع إسرائيل، وهناك أيضاً المشكلة التي لم تخمد بعد مع إيران. والسياسات السعودية تريد إطفاء المشاكل مع إيران ومع تركيا.
لكنّ ليبيا تبقى ملتهبة وتركيا حاضرة فيها وليس إيران. والسودان يلتهب ولا تحضر فيه إيران ولا تركيا. وما استجاب المتصارعون في السودان لضغوط السعودية وأميركا. والحركة السورية بطيئة جدّاً، وأمّا الحوثيون “المتأيرنون” فلا يتحرّكون أبداً باتجاه السلام. وقد تبيّن أنّ إيران وأعوانها حاضرون في ملفّ المخدّرات ليس في لبنان وسورية فقط، بل وفي اليمن أيضاً (!). وقد راهن الثنائي الشيعي على عدم اتفاق فرقاء المعارضة المسيحية في لبنان، لكنْ يبدو أنّهم اتفقوا من دون أن يشكّل ذلك خطوةً إلى الأمام باتجاه حلّ مشكلة الرئاسة.
لكن ما هي مفردات الاتفاق السعودي/ الإيراني؟
لا أحد يعرف.
فإذا كان لا يشمل اليمن حتى الآن، فكيف يشمل لبنان؟!
لبنان بين فرنسا والمسيحيين
البطريرك اللبناني الماروني ما بشارة بطرس الراعي يبدو أنّه لم يَعُد من فرنسا بأجوبة حاسمة، والرئيس نبيه برّي يذهب إلى أنّ الفرنسيين ما يزالون مع مرشّحه سليمان فرنجية، لكنّ فرقاء المعارضة اتّفقوا على الوزير السابق جهاد أزعور، وينتظرون وليد جنبلاط وبعض السُّنّة.
فإلى متى يظلُّ البرلمان مقفلاً؟
لقد انقفل سنتين ونصفاً من أجل عون، وانقفل 18 شهراً للتخلّص من حكومة فؤاد السنيورة قبل 15 عاماً، فهل يصمد الإقفال أم تجري التسوية؟
الجديد في الموقف أنّه ما عاد هناك أحدٌ يخاف من الحزب وسلاحه وأمينه العام وإصراره. قال قبل أيام إنّه لا علاقة لهم بتجارة المخدّرات ولم يصدّقه أحد. وعلى أيّ حال كيف يصدّقونه وقد تبيّن أنّه أقام للحوثيين مصانع لإنتاج الكبتاغون، بالإضافة إلى تهريبها من إيران، وليس عبر ميناء الحديدة فقط، بل وعبر محافظة المهرة بالجنوب على الرغم من أنّها خاضعة لسلطة الحكومة الشرعية اليمنية.
إقرأ أيضاً: أفول “النموذج التركيّ”
في احتفاله الضخم بتولّيه الرئاسة ولايةً ثالثة، التفت الرئيس التركي رجب طيب إردوغان محيّياً إلى الآخرين الرئيس الفنزويلي والرئيس الصومالي، وكان عبد الحميد الدبيبة رئيس وزراء ليبيا حاضراً إلى جانب رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان نجيب ميقاتي وزوجته، ونسيهما إردوغان لحسن الحظّ أو سوئه، وقد حضرا (أعني ميقاتي وعقيلته) زفاف وليّ العهد الأردني قبل أيامٍ قليلة.
ولو أنّ إيران أقامت احتفالاً بإحدى المئويّات لحضر الرئيسان العراقي والسوري وإسماعيل هنيّة وربّما الحوثي: يا أمّةً ضحكت من جهلها الأُممُ!