فائض الجهل

مدة القراءة 6 د

هل ثمّة من همس في أذن قيادة الحزب أو الثنائي، أو بعضهما، أنّ مسيحيّي لبنان قد قضوا كلّهم في 13 تشرين مثلاً؟
أو أنّ سُنّة لبنان كلّهم قد سقطوا بين قتيل ومفقود بين 14 شباط و7 أيار؟
أو أنّ بني معروف قد دفنوا أنفسهم مثلاً، حين ناداهم أبو تيمور أن “ادفنوا موتاكم وانهضوا”؟!
ما الداعي لهذا السؤال؟
بكلّ بساطة إنّها سلسلة المواقف الأخيرة لبعض أصوات الثنائي “الرعديّة”، التي صرّحت أنّ كلّ ترشيح رئاسي بوجه مرشّحه هو مؤامرة على “مقاومتهم”، وصولاً إلى تلميح وتهويل في كلام علنيّ بمحظور ومحذور وأكثر.
وضعاً للأمور في نصابها، فلنعُد إلى شريط الأحداث، ولنتذكّر الحقائق والوقائع:
بدأ الاستحقاق الرئاسي دستورياً، قبل تسعة أشهر، أي قبل شهرين من نهاية ولاية ميشال عون آخر تشرين الأوّل. يومذاك أعلن البعض أنّ لديه مرشّحاً اسمه ميشال معوّض. فالتزم الثنائي الصمت. نزل إلى المجلس منذ الدعوة الأولى في 29 أيلول 2022، مرّة واثنتين وإحدى عشرة مرّة، لينسف النصاب، من دون كلام ولا ترشيح مقابل.
بعدئذٍ، وفجأة، أعلن الثنائي نفسه أنْ بات لديه مرشّح رئاسي.
وفجأة أيضاً أقفل الثنائي مجلس النواب، منذ 19 كانون الثاني 2023.
لا دعوة ولا جلسة ولا انتخاب ولا من ينتخبون.

التآمر الحقيقي هو على سليمان فرنجية المستحقّ للترشّح للرئاسة وفق عناوينه الرئاسية: الطائف، العروبة، والعودة الآمنة للنازحين والواعد بدعم إقرار الاصلاحات المطلوبة دولياً

وللتبرير، قال إنّه لن يستمرّ في جلسات إضاعة الوقت، فحين يصير للمعارضة مرشّح، يفتح المجلس مجدّداً.
وفجأة أيضاً وأيضاً، صار للمعارضة مرشّح. فقامت القيامة. وبُحّت الأصوات زعيقاً: إنّه النكد السياسي. إنّه الفرض الرئاسي. إنّها المناورة لإسقاط مرشّحنا. إنّها المؤامرة لضرب مقاومتنا!!! حتى انتهى المسلسل إلى مقولة: نفتح المجلس حين يكون هناك مرشّح جدّي!!
هنا تبدأ الأسئلة ولا تنتهي:
– من أيّ قاموس برلماني أو ديمقراطي أو شرعيّ استلهمتَ اختراعك بأنّ المرشّح المنافس هو الخائن العميل المحلَّل رأسه للذبح مثل محمّد شطح؟؟
– ثمّ من أيّ نظام دستوري أو وطني أو أخلاقي اعتبرتَ أنّ مفتاح السلطة الاشتراعية الأمّ هو مفتاح بيت أبيك؟
– وكيف اكتشفت أنّ مبدأ التنافس الديمقراطي هو حرام، وأنّ ارتكاب التعيين أو التنصيب أو التهريب الرئاسي هو القاعدة؟
– أكثر من ذلك، من هم المتآمرون عليك في حساباتك الآن؟ ميشال عون وجبران باسيل؟ الأوّل الذي قبع ثلاثين يوماً تحت أزيز المسيّرة الإسرائيلية المهدِّدة باغتياله في منزله في الرابية، في تموز 2006، دعماً لمغامرتك؟ أو الثاني الذي تحمّل عقوبات سياساته وارتكاباته، تماهياً معك؟
– من المتآمر عليك؟ سيّد بكركي، الذي وقف سلَفه في المكتب البيضاوي بالذات، في آذار 2005، وأمام “غازي” كابول وبغداد وبيروت، بوش الابن، ليقول له علناً: إنّ مقاومي لبنان ليسوا إرهابيين، فيما كنت أنت لاجئاً إلى لائحة بشير الجميّل الانتخابية في بعبدا – عاليه، وإلى خطاب الـ10,452 كيلومتراً مربّعاً؟ أم بكركي بشارة الراعي، الذي ذهب إلى سوريا فيما شعبها يُذبح، متوافقاً معك في خياراتك ورهاناتك ومعاركك؟
– ولماذا صار هؤلاء متآمرين؟ ألأنّهم يقولون لك إنّ الاستحقاق موضوع البحث هو للرئيس المسيحي الوحيد من ضفّة شرق المتوسّط حتى شرق الصين، وبالتالي لا يمكن أن يُفرض اسمه عليهم فرضاً، ولا أن يُعيّن غصباً، ولا أن يُنصَّب قهراً، حتى يبقى لبنان قابلاً أن يُسمّى لبنان، وقابلاً للحياة، لا أن يصبح زقاقاً آخر وحسب من ركام وأنقاض هذا البؤس العميم العظيم الذي خلّفه محورك وصنعته “مقاومتك” من صنعاء إلى حلب؟
التآمر الحقيقي هو على سليمان فرنجية المستحقّ للترشّح للرئاسة وفق عناوينه الرئاسية: الطائف، العروبة، والعودة الآمنة للنازحين والواعد بدعم إقرار الاصلاحات المطلوبة دولياً. وإذا كان من ضعف في رؤيته للبنان المستقبل. ليس لأنه لا يفي بما وعد. العكس هو الصحيح. ميزته الأولى إنه الصادق في كل ما يقول. العِلّة في وعود حلفائه.

فجأة صار للمعارضة مرشّح. فقامت القيامة. وبُحّت الأصوات زعيقاً: إنّه النكد السياسي. إنّه الفرض الرئاسي. إنّها المناورة لإسقاط مرشّحنا. إنّها المؤامرة لضرب مقاومتنا

التآمر يكون بأسلوب ترشيحه وتخوين الآخرين، وبعنوان ترشيحه غير الميثاقي ولو بالشكل. لم يكن ينقص ترشيحه إلا تعليق الصور على دبّابات ما قبل القرن الماضي باعتباره مرشّح الماضي السحيق أو المستقبل الظالم.
ثمّ من يحدِّد المرشّح الجدّيّ؟
أنت؟ متى صار في نظام لبنان الدستوري “مجلسٌ لصيانة الدستور” يملك صلاحية حصرية وقسرية لشطب مرشّح وإبقاء آخر، بحسب إرادة عليا؟
هذا نظام الملالي في طهران، الذي في انتخاباته الرئاسية الأخيرة قبِل سبعة مرشّحين فقط من 590. بينما نحن حتى الآن في نظام بيروت، بيروت العصيّة على شارون.
ثمّ أخيراً، أيّ مقاومة تدّعي تآمر ديمقراطية اللبنانيين عليها؟
تلك التي وقّعت مع العدوّ قبل أقلّ من سنة على ترسيمٍ واعتراف، والتي سكتت حتى اللحظة عن عدم نشر مراسلة دولتنا إلى الأمم المتحدة، حتى لا يعرف شعبنا “المقاوم” ماذا وقّعتم في ليل؟
لن نسألكم عمّا بقي من معالم الدولة في نطاق “مقاومتكم”؟
لماذا قاتِل عنصر اليونيفيل هو من هذا النطاق؟
ولماذا خاطِف المواطن السعودي من هذا النطاق؟
ولماذا مطلِق النار على الأبنية السكنية في قلب ضاحيتكم من هذا النطاق؟
ولماذا فارض الخوّة على الناس في برج حمود والنبعة من هذا النطاق؟
ولماذا تاجر الممنوعات بين الفنار ورويسات جديدة المتن من هذا النطاق؟
لم تعد المسألة قصّة أطراف وحرمان، بل باتت في قلب العاصمة وقلب ضواحيها…
بل نسأل: لماذا كلّ المنطقة إلى تصفير مشاكل إلا أنتم إلى تصفير حلول؟

إقرأ أيضاً: سماسرة الأزمات يتاجرون بمصائر 400 مليون عربي..

بعد اتّفاق بكين بدأ التنصّل بأن لستم معنيّين. وبعد القمّة السعودية الجامعة، عراضة مسلّحة، صودف للمفارقة أنّ كلّ من صوّر فيديو فيها وجّه كلامه الترهيبي إلى الداخل. وحده البيان الرسمي تحدّث عن عدوّ خارجي.
حتى إنّه تمّ نبش فلول ميليشيات الوصاية والقمع وإحراق وسائل الإعلام، وإعادة أعلامها ترفرف وزجّها في المعركة.
كلّ هذا مناقض للبنان. هذا البلد العصيّ على البلع. فلا هو اليمن ولا العراق ولا سوريا ولا أيّ مكان.
ما الذي يفسّر كلّ ما سبق وما نشهده ونعانيه؟ هل هو فائض القوّة؟ طبعاً لا.
بل هو فائض عدم المعرفة بلبنان وتاريخه وجغرافيّته وكيمياء ناسه وفيزياء قواه الحيّة. هو فائض عدم المعرفة بثوابت هذا الوطن وتوازناته وطبيعة تكوينه وطبائع مكوِّنيه…
باختصار إنّه فائض الجهل.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…