ما من شيء يبرّر اندفاعة “بعض العرب”، دون السعودية والكويت وقطر، نحو النظام السوري. وإن كانت نظرة قريبة إلى المشهد ستُظهر لنا أن لا شيء جديد في هذه الاندفاعة. فوفد مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي الذي زار دمشق والتقى رئيس النظام السوري بشار الأسد لم يضمّ في صفوفه إلا وفود دول سبق أن طبّعت خلال السنوات الأخيرة علاقتها مع النظام السوري، أو دول لم تقطعها أساساً، وكان وزير الخارجية المصري وحده هو الجديد على المشهد.
وإن كان الفصل الحاسم بين مأساة الزلزال الأرضي على الشعب السوري، المقهور بالزلزال الحربي والتهجيري، وبين إنعاش النظام، واجباً وضرورياً.
العقوبات المفروضة على أفراد من النظام السوري لا تشمل بأيّ حال دخول المساعدات الإنسانية، بل وأكثر من ذلك يجب التذكّر أنّ روسيا قد مارست حقّ النقض في مجلس الأمن 4 مرّات
ولئن كانت المأساة توجب كلّ التضامن والتقديمات العينيّة والمساعدات لشعب منكوب، فإنّنا يجب أن لا ننساق لادّعاءات النظام أنّه محاصر وأنّ العقوبات هي العائق أمام وصول المساعدات للمنكوبين. بل ما يجب تذكّره في الأصل والأساس أنّ النظام ومعه روسيا وإيران، هم من كانوا يمنعون وصول المساعدات الإنسانية إلى ملايين السوريين.
العقوبات المفروضة على أفراد من النظام السوري لا تشمل بأيّ حال دخول المساعدات الإنسانية، بل وأكثر من ذلك يجب التذكّر أنّ روسيا قد مارست حقّ النقض في مجلس الأمن 4 مرّات (الأربع مرّات هي فقط تلك التي تتعلّق بإدخال المساعدات وليس مجموع المرّات التي مارست فيها روسيا الفيتو من أجل حماية النظام السوري) ومنعت إدخال المساعدات إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام إلا من معبر وحيد هو معبر باب الهوى مع تركيا.
إعلان منسّق الأمم المتحدة للإغاثة مارتن غريفيث في اجتماع مغلق لمجلس الأمن الدولي أنّ الرئيس السوري بشار الأسد وافق على السماح للهيئة الأممية بإدخال المساعدات إلى سوريا عبر معبرين حدوديّين آخرين من تركيا لمدّة ثلاثة أشهر إلا اعتراف بالاستدلال المعاكس بأنّ الأسد هو من يحاصر السوريين.
وهم تعريب الأسد
على هذا يصبح الحديث عن أنّ التطبيع مع الأسد هو تطبيع إنساني بسبب الزلزال أمراً فاقداً للجديّة. أمّا الحديث عن “تعريب” الرئيس بشار الأسد فقد أثبتت التجارب العديدة أنّه وهم. والقول إنّه هو نفسه قد بعث رسائل عدّة تعبّر عن انزعاجه من إيران ونفوذها يدحضه مشهد زيارة إسماعيل قاآني قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني لحلب، التي دُمّرت بسبب قصفها من قبل النظام، ومعه الإيراني والروسي، لا بسبب الزلزال، قبيل أن يزورها الأسد نفسه. يُضاف إلى ذلك صورة بشار وهو يزور حلب في اليوم التالي ضاحكاً ويخاطب قائد ميليشيا عراقية تابعة لإيران تسيطر على المدينة: “معاً انتصرنا”.
حدث آخر لا يمكن تجاهله، وهو القصف الإسرائيلي لقلب العاصمة دمشق قبل أيام، الذي استهدف، كما نقلت “رويترز” عن عدّة مصادر أمنيّة واستخبارية، ومنها مصادر من النظام نفسه، اجتماعاً في حيّ كفرسوسة بين خبراء عسكريين إيرانيين وسوريين، وعناصر من حزب الله. ووفقاً لـ”رويترز” كان اجتماع كفرسوسة يتعلّق ببرنامج إنتاج الصواريخ الموجّهة الذي يديره الحرس الثوري، والطائرات المسيّرة. هذا الحدث لا يثبت فقط عدم انزعاج الأسد من إيران ونفوذها في سوريا، بل يثبت أنّه شريكها في كلّ ما ترتكبه بطائراتها المسيّرة من السعودية إلى أوكرانيا.
عاد الحديث عن المبادرة الأردنية، التي فشلت بعدما بدأت قبل أكثر من عامين يوم زار الملك عبد الله الثاني واشنطن والتقى رئيس الولايات المتحدة الأميركية جو بايدن طالباً تعليق “قانون قيصر” بغرض فتح ممرّات تجارية مع النظام
تباعد بين مصر والسعوديّة
لكنّ ما يستدعي التوقّف والتأمّل هو موقف القاهرة. فحتى أشهر قليلة مضت كانت مصر من الدول الرافضة لعودة نظام الأسد إلى جامعة الدول العربية، وإن بدا أنّ اتصال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بالأسد بُعيد الزلزال متضامناً ومعزّياً عن ضحايا الزلزال هو أمر بحت إنساني. إلا أنّ وجود رئيس البرلمان المصري حنفي الجبالي ضمن وفد اتحاد البرلمانات العربية، وزيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري لدمشق في زيارة هي الأولى منذ أكثر من 11 عاماً، لا يمكن أن يُنظر إليهما بعيداً عن التمايز المصري “العتيق” في الملفّ السوري، منذ العام 2011، انطلاقاً من نظرية “الدولة الوطنية”. خصوصاً بعد مقاطعة المملكة ومعها الكويت لاجتماع الشراكة “الصناعية الأردنية الإماراتية المصرية البحرينية” قبل أيّام. وترافق ذلك مع كلام على لسان وزير المالية السعودي محمد الجدعان، الذي قال خلال مشاركته في منتدى دافوس الاقتصادي العالمي إنّ المملكة تغيّر طريقة تقديم المساعدات لحلفائها وتشجّع دول المنطقة على إجراء إصلاحات اقتصادية، مضيفاً: “اعتدنا تقديم منح ومساعدات مباشرة دون شروط، ونحن نغيّر ذلك. نعمل مع مؤسّسات متعدّدة الأطراف لنقول بالفعل إنّنا بحاجة إلى رؤية إصلاحات.. إنّنا نفرض ضرائب على شعبنا ونتوقّع من الآخرين فعل الأمر نفسه وأن يبذلوا جهداً. نريد المساعدة لكنّنا نريد منكم الاضطلاع بدوركم”.
وهذا يعيد إلى الأذهان الشروط المصرية المعلنة لعودة سوريا إلى الحضن العربي، وأبرزها التزام الأسد بتسهيل عودة النازحين السوريين، وتطبيق القرار 2254 الخاص بالحلّ السياسي وفكّ الارتباط بإيران.
إيران والأسد يُغرقان الأردن بالمخدّرات
عاد الحديث عن المبادرة الأردنية، التي فشلت بعدما بدأت قبل أكثر من عامين يوم زار الملك عبد الله الثاني واشنطن والتقى رئيس الولايات المتحدة الأميركية جو بايدن طالباً تعليق “قانون قيصر” بغرض فتح ممرّات تجارية مع النظام. ووُعد لبنان حينذاك بالحصول على الكهرباء من خلال إيصال الغاز الطبيعي المصري إلى الجمهورية اللبنانية عبر الأردن وسوريا. وأعلنت السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا وقتئذٍ أنّ بلادها لا تمانع استجرار الغاز من مصر، لكنّ الأخيرة طالبت بضمانات خطّية بأن لا تطال عقوبات قيصر المشروع، وهو ما لم تحصل عليه، فتوقّف المشروع.
مع ذلك لا يمكن النظر إلى إصرار عمّان على مبادرتها دون النظر إلى ما يتعرّض له الأردن. فقد أغرق الإيرانيون، ومعهم النظام السوري وحزب الله، عبر الحدود السورية، المملكة الهاشمية بالمخدّرات والأسلحة. إضافة إلى أنّ عمّان الضعيفة الموارد تغصّ باللاجئين ولا دعم فعليّاً لها من المجتمع الدولي، وتواجه وضعاً اقتصادياً متردّياً وضعفاً في الاستثمارات.
ولئن كان من عادة العرب “المراهنات السياسية”، فإنّه يجب الانتباه إلى أنّ ما حصل ويحصل لن يعوّم الرئيس السوري، فذلك ضرب من الخيال. فليس لدى الرجل ما يقدّمه لا في السياسة ولا في الأمن
الإهمال العربيّ: الأسد في القفص
لكنّ السياق العربي الراهن يُهمل أمراً جوهرياً، وهو أنّ الولايات المتحدة لن تعطي نصراً مجّانياً لروسيا في سوريا في لحظة اشتباكهما في أوكرانيا، وأيّ حديث عن تعويم نظام الأسد وتقوية الدور الروسي مقابل إضعاف الدور الإيراني ليس سوى هديّة لبوتين لن ترضى واشنطن بتمريرها.
اللافت اندفاعة “بعض العرب” لا تتنبّه إلى معنى صدور تقرير عن منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، قبل أيام من الزلزال المأساوي، خلص فيه محقّقوها إلى أنّ “هناك مبرّرات معقولة تدفع إلى الاعتقاد بأنّ النظام السوري استعمل الغاز السامّ في مدينة دوما خلال الحرب في سوريا”، وذلك في عام 2018، أي بعد صفقة 2013 واتفاق وزيرَي خارجية الولايات المتحدة وروسيا آنذاك جون كيري وسيرغي لافروف على تخلّي الأسد عن ترسانته الكيمياوية بعد استخدامها ضدّ المدنيين في عام 2013 مقابل أن تمرّ تلك الجريمة دون تداعيات تتناسب وحجمها.
ولا تتنبّه هذه الاندفاعة أيضاً إلى قانون مكافحة المخدّرات الذي صدر عن الكونغرس وأُدرج فيه اسم الأسد جهارةً. إذ أقرّ الكونغرس بمجلسَي النواب والشيوخ أواخر عام 2022 مشروع قرار يضع استراتيجية أميركية لوقف وتفكيك تجارة المخدّرات والكبتاغون المرتبطة بالنظام السوري ورئيسه. وتمكّن المشرّعون من دمج “مشروع كبتاغون الأسد” بموازنة وزارة الدفاع لعام 2023. ويصف هذا القانون رئيس النظام السوري بأنّه “زعيم عصابة مخدّرات”، ويعتبر أنّ شبكة المخدّرات التي يديرها تشكّل خطراً على الأمن الدولي. ويعتبر القانون، الذي بات ملزماً لإدارة بايدن، أنّ تجارة المخدّرات المرتبطة بنظام الأسد هي تهديد أمني عالمي. وطالب الوكالات الأميركية بوضع استراتيجية مكتوبة لتعطيل وتفكيك إنتاج المخدّرات والاتّجار بها. كما يقدّم القانون الدعم للدول الحليفة لأميركا في المنطقة، التي يتمّ تهريب المخدّرات إلى أراضيها، وخاصة الأردن ودول الخليج العربي.
مراهنات سياسيّة خائبة
أياً كان عادات العرب في “المراهنات السياسية”، فإنّه يجب الانتباه إلى أنّ ما حصل ويحصل لن يعوّم الرئيس السوري، فذلك ضرب من الخيال. فليس لدى الرجل ما يقدّمه لا في السياسة ولا في الأمن.
إقرأ أيضاً: مطالب الحزب البسيطة: الخروج من المجتمع الدوليّ
يبقى لافتاً ما أعلنه وزير خارجية الكويت الشيخ سالم عبدالله الجابر الصباح على هامش مؤتمر ميونخ للمناخ قبل أيام، من أنّ بلاده ليس لديها خطط للتطبيع مع النظام السوري، كما فعلت بعض الدول العربية، ولا لإعادة التواصل مع رئيس النظام السوري بشار الأسد على الرغم من الزلزال الذي ألحق دماراً كبيراً بالبلاد. والجميع يعرف معنى العلاقات السعودية – الكويتية وعمق انسجامها وتنسيق البلدين المشترك.
إذاً ما تزال عودة نظام بشار الأسد إلى جامعة الدول العربية بعيدة. وهو ما يعني أنّ العودة غير ممكنة لأنّها تشترط إجماعاً عربياً غير متوافر حتى الآن. فهل تتدخّل الإدارة الأميركية لعرقلة اندفاعة المندفعين؟ أم انشغالها مع روسيا والصين سيعطي فرصة لمن يدفع باتجاه هذه العودة لكسب مزيد من الأصوات؟