الصين تتراجع.. الهند تتقدّم.. أوروبا أقوى

مدة القراءة 8 د

ينشر “أساس” 5 حلقات تلخّص ملفّاً ضخماً جدّاً أعدّته مجلة “إيكونوميست” البريطانية الواسعة الانتشار والمعروفة بموضوعيتها عن العام المقبل، وقامت الزميلة إيمان شمص بترجمته إلى العربية ليكون بمثابة رؤيّة دولية لـ”عام التحوّلات” الذي عنونت به “أساس” ملفها السنويّ ويُنشر اعتباراً من يوم غد السبت.

 في الحلقة الخامسة:

أجمع محرّرو قاموس كولينز الإنكليزي على اعتبار كلمة  permacrisis “كلمة عام 2022”. وهي تعني: “حقبة طويلة من عدم الاستقرار وانعدام الأمن”.

اقتصادات الخليج تزدهر ليس فقط بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، بل أيضاً بفضل دورها المتنامي كمستودعات ماليّة

تلخّص هذه الكلمة السيّئة، في رأي رئيسة تحرير مجلة “إيكونوميست” زاني بينديوس، عالم عام 2023 أيضاً، بعدما أدّى غزو بوتين لأوكرانيا إلى أكبر حرب برّية في أوروبا، وهي:

– الأولى منذ عام 1945.

– أخطر تهديد نووي منذ أزمة الصواريخ الكوبيّة.

– أكبر نظام عقوبات بعيد المدى منذ الثلاثينيات.

– أعلى ارتفاع لأسعار الغذاء والطاقة، وأعلى معدّلات تضخّم وأكبر تحدٍّ للاقتصاد الكلّي.

اهتزاز الافتراضات التي سادت عقوداً: الحدود المضمونة، الأسلحة النووية لن تُستخدم، التضخّم سيكون منخفضاً، وأضواء البلدان الغنيّة ستظلّ مشعّة.

 

انبعاث الغرب

أحدثت هذه الاضطرابات صدمات، حسب سوزان جان إليزابيت، وزاني بينديوس، أول امرأة تشغل منصب رئيس تحرير مجلّة إيكونوميست. وهما كتبتا مقدّمة ملف المجلّة الذي يحمل توقّعات كبار محرّريها ومراسليها لمختلف تطوّرات الأوضاع العالمية في عام 2023.

لكنّ أهمّ هذه الصدمات كانت جيوسياسية، وأحدثها تحدّي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة بعد الحرب، ثمّ استمرار تدهور العلاقات بين أميركا والصين، وصولاً إلى ردّ أميركا والدول الأوروبية على عدوان روسيا الذي أعاد تنشيط فكرة “الغرب” والتحالف عبر الأطلسي. وهذا وسّع الفجوة بين الغرب وباقي العالم. فغالبية سكّان العالم يعيشون في دول لا تدعم العقوبات الغربية ضدّ روسيا، ويرفض الرئيس الصيني شي جينبينغ القيم العالمية التي يقوم عليها النظام الغربي. وأصبح الفصل الاقتصادي بين أكبر اقتصادين في العالم حقيقة واقعة. ولم يعد الغزو الصيني لتايوان غير قابل للتصديق، وظهرت ثغرات في حقائق جيوسياسية أخرى طويلة الأمد: تحالف المصلحة بين الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية.

من الصعب التنبّؤ بالعواقب الجيوسياسية الطويلة المدى لصدمات عام 2022

خوف من الجوع

الصدمة الثانية، حسب رئيسة تحرير إيكونوميست، هي ما أدّت إليه الحرب في أوكرانيا من ارتفاع هائل في أسعار السلع وإعادة تشكيل سريعة لنظام الطاقة العالمي. فبسبب أهمية أوكرانيا من حيث هي مصدر للمنتجات الزراعية، هدّدت الحرب بانتشار الجوع في العالم، وكشفت خطر إدمان أوروبا المزمن على صادرات الغاز والهيدروكربونات الروسيّة، وجعلت العديد من صناعات أوروبا غير قابلة للاستمرار، وأجبرت الحكومات على إنفاق المليارات من أجل حماية المستهلكين والتدافع المجنون على مصادر جديدة للإمداد.

هذا كلّه يُضاف إلى عواقب تغيّر المناخ وارتفاع تكاليف الطاقة التي دفعت إلى إعادة فتح محطات الطاقة الخاملة التي تعمل بالفحم، فظهرت مقايضات صعبة بين أن تكون إمدادات الطاقة ميسورة التكلفة وآمنة وأن تكون مستدامة بيئياً.

 

أوروبا والخطر البوتينيّ

الصدمة الثالثة، في رأي بينديوس، التي بدأت عملها في المجلة عام 1994 مراسلةً للأسواق الناشئة، هي تفاقم انعدام استقرار الاقتصاد الكلّي بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء بحيث أصبح التضخّم، الذي كان الظنّ في البداية أنّ ارتفاعه مؤقّت، مشكلة مستمرّة. فعلى الرغم من أرباح البنوك المركزية الكبرى في العالم من الزيادات السريعة والضخمة في أسعار الفائدة، ما زال استقرار الاقتصاد الكلّي بعيد المنال، والتضخّم العالمي إلى ارتفاع كبير.

 

ماذا سيحدث بعد ذلك؟

يعتمد الأمر على تطوّر هذه الصدمات الثلاث في الجيوسياسة والطاقة والاقتصاد، وكيف تؤثّر إحداها في الأخرى.

تحذّر بينديوس من أنّ الوضع قاتم على المدى القصير: شطر كبير من العالم في حال ركود في عام 2023. وقد يؤدّي الضعف الاقتصادي إلى تفاقم المخاطر الجيوسياسية. هذا المزيج السامّ أكثر وضوحاً في أوروبا التي تواجه فصول شتاء صعبة في العامين المقبلين، ولا سيّما أنّ اقتصاداتها على شفا الركود وأسعار الفائدة المرتفعة اللازمة للحدّ من التضخّم تؤدّي إلى تقليل الإنفاق الاستهلاكي وزيادة البطالة، وموجة البرد تؤدّي إلى ارتفاع أسعار الغاز وزيادة احتمال انقطاع التيار الكهربائي. ولن تكون الحكومات الأوروبية قادرة على حماية المستهلكين من خلال الإعانات الهائلة ووضع حدّ أقصى للأسعار. وبريطانيا ستشهد أسوأ المواقف، وكذلك إيطاليا التي تخلّفت منذ فترة طويلة عن أوروبا. أمّا الخطر الجيوسياسي الأكبر هو أنّ بوتين، غير القادر على النجاح في ساحة المعركة، سيحاول جاهداً استغلال نقاط الضعف الأوروبية هذه، من خلال تدمير البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا مع اقتراب الشتاء وكسر تضامن دعمها من أوروبا الغربية باستخدام الغاز سلاحاً. وقد يذهب أبعد: قطع جميع صادرات الغاز أو تخريب خطوط أنابيب الغاز في أوروبا. وهذا ليس أقلّ خطراً من استخدام الأسلحة النووية التكتيكية. وهو ما يعني أنّ الأمور ستزداد سوءاً في أوروبا.

الاقتصاد الأميركي يدخل عام 2023 في وضع أقوى من اقتصاد الصين أو أوروبا

الصين وتايوان

المكان الثاني الذي قد يؤدّي فيه الضعف الاقتصادي إلى تفاقم المخاطر الجيوسياسية عام 2023 هو الصين، التي سيكون اقتصادها في العام الجديد ضعيفاً بسبب أخطاء سياستها الداخلية: تصميم رئيسها شي على التمسّك باستراتيجيّته الصفريّة من الفيروسات وعدم قدرته على إدارة أزمة التزايد السكاني. وهو كثّف خطابه العدواني والقومي، خاصة في ما يتعلّق بتايوان، وحذّر في مؤتمر حزبه الأخير من “عواصف خطيرة” مقبلة، وتحدّث عن “استفزازات جسيمة” تنطوي على “تدخّل خارجي” في تايوان. ولأنّه يفضّل الولاء على الكفاءة، لم يعد محاطاً بالتكنوقراط الاقتصاديين ذوي الخبرة. فإذا تفاقمت المشاكل الاقتصادية في الصين في عام 2023، قد نشهد صراع سيوف على تايوان.

 

قوّة اقتصاد أميركا مشكلة للعالم

الاقتصاد الأميركي يدخل عام 2023 في وضع أقوى من اقتصاد الصين أو أوروبا. الزيادات القوية في أسعار الفائدة من قبل البنك الاحتياطي الفيدرالي تدفع الاقتصاد إلى الركود. لكن مع وجود سوق عمل قويّ ومدّخرات أسريّة وفيرة، سيكون الركود معتدلاً. وقد استفادت البلاد، وهي منتج رئيسي للطاقة، من صدمات السلع. لكنّ القوة الاقتصادية النسبية لأميركا ستكون مشكلة لباقي العالم.

سيحتاج البنك الاحتياطي الفيدرالي إلى رفع أسعار الفائدة لفترة أطول لاحتواء التضخّم، وهو ما سيقوّي الدولار ويجبر البنوك المركزية الأخرى على مواكبة ذلك. على الصعيد المحلّي، قد يؤدّي الانقسام الحكومي والركود إلى تصلّب تشريعي وسياسات سامّة أكثر من المعتاد في واشنطن. وقد يتلاشى الدعم المقدّم إلى أوكرانيا وتزداد الصلابة تجاه تايوان.

 

الخليج والهند: نقطة مضيئة

لكن على الرغم من الأسباب التي تجعل عام 2023 قاتماً وخطيراً، ترى رئيسة تحرير إيكونوميست أنّ هناك بعض الأخبار السارّة: اقتصادات الخليج تزدهر ليس فقط بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، بل أيضاً بفضل دورها المتنامي كمستودعات ماليّة. وستكون الهند، التي ستصبح أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكّان في عام 2023 متفوّقةً على الصين، نقطة مضيئة أخرى مدعومة بانخفاض أسعار النفط الروسي وزيادة الاستثمار المحلّي واهتمام الأجانب المتزايد بتنويع سلاسل التوريد الخاصّة بهم بعيداً عن الصين.

عموماً، ستكون الاقتصادات الناشئة أفضل نسبياً ممّا كانت عليه في الفترات السابقة بسبب ارتفاع أسعار الفائدة والركود العالمي. وستحفّز صدمة الطاقة التحوّل إلى مصادر الطاقة المتجدّدة، وتشجّع على مزيد من الواقعية في ما يتّصل بالدور المستمرّ للوقود الأحفوري، ولا سيّما دور الغاز الطبيعي الذي سيكون وقوداً انتقالياً إلى مستقبل أكثر خضرة.


ديمقراطيّة ضعيفة

من الصعب التنبّؤ بالعواقب الجيوسياسية الطويلة المدى لصدمات عام 2022. ومهما حدث في أوكرانيا، من الواضح أنّ بوتين سيفشل في تحقيق هدفه الاستراتيجي المتمثّل في إنكار حقّ البلاد في الوجود. وبدلاً من ذلك، ستكون أوكرانيا دولة ذات توجّه غربي ولديها أكبر جيش في أوروبا وأكثره خبرة وصرامة. حتى لو كانت خارج الناتو، فإنّ ذلك سيغيّر الحسابات الأمنية لأوروبا. يجب أن يؤدّي نجاح أوكرانيا إلى توقّف المعتدين المحتملين الآخرين عن التفكير في أيّ حرب.

غير أنّ رفض معظم الاقتصادات الناشئة الانضمام إلى نظام عقوبات الغرب ضدّ روسيا يشير إلى محدودية خطاب الدفاع عن الحرّيات الديمقراطية والحقّ في تقرير المصير.

مع بداية عام 2023، لم يمُت نظام ما بعد الحرب لكنّه تغيّر.

إقرأ أيضاً: الحلقة الأولى

إقرأ أيضاً: الحلقة الثانية

إقرأ أيضاً: الحلقة الثالثة

إقرأ أيضاً: الحلقة الرابعة

 

لقراءة النصّ الأصلي: إضغط هنا

مواضيع ذات صلة

شينكر لـ”أساس”: الحزب قد “يَقتُل”.. عون هو الرئيس وبايدن أساء للسعودية

حاضر دائماً في التفاصيل اللبنانية. داخل الادارة الاميركية أو خارجها يبقى فاعلاً ومؤثراً إنّه ديفيد شينكر المُساعد السّابق لوزير الخارجيّة الأميركيّ لشؤون الشّرق الأدنى. يعرفُ…

عام المرأة الإيرانية… ثورة نساء إيران: من الخميني إلى أدونيس والأسد

في نهاية عام 2022 يكون قد مرّ أكثر من مئة يوم على ثورة “المرأة، الحياة، الحرّية” المستمرّة في إيران. صحف، مجلّات، ومواقع صحافية إلكترونية عالمية…

فرنسا 2022: الفشل الكبير في “لبنان الكبير”

الفشل الفرنسي الكبير هو في “لبنان الكبير”. وهو فشل ملازم للسياسات الفرنسيّة منذ سنوات. فهي لا تحمل العصا، ولا تملك الجزرة. لنبدأ من الآخر. 1-…

رحلة الدولار مستمرّة صعوداً: 75 ألفاً نهاية 2023؟

تُظهر العودة إلى أرقام سعر الصرف في السنوات الثلاث المنصرمة أنّ الدولار كان يقفز كلّ سنة بين 17 و20 ألفاً، وهذا يعني أنّ وصول الدولار…