يقف السياسيون في العالم العربي في مقدمة المشهد دائما. هم حاضرون في كل مكان. لا يمكن أن يغمض المرء عينيه إلا على صورة واحد أو أكثر منهم. تطارد مآثرهم المواطنين إلى كوابيسهم. وهم غالبا ما يكونون ضيوفا في البيوت. إن لم يظهروا على شاشات الفضائيات فلابد أن يُذكروا على مائدة الطعام بين أفراد العائلة كما لو أنهم جزءا منها. يراقب المجتمع أقوالهم، فهم غالبا لا يفعلون شيئا غير أنهم في حراك مستمر. والغريب أن المجتمع يخاف منهم وعليهم في الوقت نفسه. فهم يضمرون غير ما يظهرون وقد امتهنوا الكذب. ولا أحد في إمكانه أن يأمن جانبهم. حتى الذين يعملون معهم يحذرون عبور خطوط حمراء خفية قد لا يشعرون بوجودها. ولأنهم ليسوا موظفين مؤقتين كباقي السياسيين في العالم فإن المرء يحتاط من أن يكون هدفا لخصومتهم من أجل أن يقضي ما تبقى من سنوات عمره بسلام. فالسياسي العربي يستهلك أجيالا من البشر من غير أن يغادر منصته. ولنا في الرؤساء العرب الذين أزيحوا بالقوة من كراسيهم، معمر القذافي وعلي عبد الله صالح وصدام حسين وحسني مبارك وعمر البشير مثالا تلقي من خلاله مصائرهم الضوء على مَن لا يزال حاضرا في الحياة السياسية مثل سلعة معمرة أو لقية ثمينة لا يمكن الإستغناء عنها كما هو حال الرئيس نبيه بري الذي لا يمكن أن يكون هناك مجلس للنواب في لبنان من غيره ما دام حيا.
لو فكرنا في ملايين الكلمات التي كُتبت مع اللبناني جبران باسيل وضده لكان سؤالنا مشروعا “هل يستحق ذلك الكائن الفائض كل هذا الفيض من الكلمات؟
لست هنا في صدد الحديث عن الضرر الكبير الذي يحدثه وجود شخصيات سياسية مثل بشار الأسد وجبران باسيل ونوري المالكي وراشد الغنوشي وحسن نصر الله وسواهم في الواجهة السياسية ولكني أفكر في ما استهلكوه من تفكير وعاطفة وأحلام ومخاوف وهواجس وانفعالات الناس العاديين الذين كان في إمكانهم أن يعيشوا حياة سوية لولا وجود تلك الفزاعات التي يمكنها أن تقلب حياتهم جحيما إن شعرت بالخطر. فعلى سبيل المثال لو فكرنا في ملايين الكلمات التي كُتبت مع اللبناني جبران باسيل وضده لكان سؤالنا مشروعا “هل يستحق ذلك الكائن الفائض كل هذا الفيض من الكلمات؟” وهنا ينبغي تذكر الروائي الفرنسي مارسيل بروست الذي كتب رائعته “البحث عن الزمن المفقود” بمليون وخمسمئة الف كلمة والتي تُعتبر أطول رواية كُتبت في التاريخ البشري.
بطل الروايات المملّة
لو جمع باسيل كل ما كتبه مناصروه وخصومه عنه لكانت الحصيلة تؤهله لدخول كتاب غينيس ولتفوق على مارسيل بروست باعتباره بطلا لأطول رواية مملة وبائسة وضحلة في كل معانيها. ذلك مثال ليس إلا للزمن الضائع الذي أُهدرت فيه ثروات اللغة من أجل لا شيء. أتذكر أن هناك عشرات الكتب قد أُلفت عن صدام حسين وحسني مبارك وحافظ الأسد. مَن يقرأها اليوم؟ لقد حرص الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي على أن يعقد ذات مرة مؤتمرا نقديا كبيرا شارك فيه نقاد عرب كبار لدراسة كتابه القصصي “القرية القرية. الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء”. ترى ما الذي قاله أولئك النقاد؟ من الطريف أن إحدى منصات البيع الألكتروني قد وضعت ذلك الكتاب في قائمة الكتب التي تعالج مشكلة الانتحار.
إقرأ أيضاً: نساء إيران: فليتقاعد “المرشد” وثورته
ما لم ينتبه إليه الكثيرون بسبب الفوضى التي تعم العقل العربي أن أولئك السياسيين الطارئين والهامشيين الذين لا يمتون إلى عالم السياسة بصلة لا يستحقون أن تُهدر من أجلهم الكلمات التي تكمن وظيفتها في البحث عن الحقيقة وكيفية أن تكون تلك الحقيقة في خدمة المواطن العادي ليكون في وضع أقوى وهو يواجه فساد طبقة سياسية ليس مسبوقا في التاريخ. لا أعتقد أن كائنا صنعته الصدفة يحتاج إلى مليون كلمة من أجل هزيمته. ذلك زمن ضائع يُضاف إلى الزمن الذي خسرته الشعوب تنتظر الضوء في نهاية النفق.