عام 1990 لم يكن الإمام الخميني موجوداً. لقد مات قبل ستّة أشهر من تدمير العراق. غير أنّ ثورته هي الأخرى قد انتهت بوفاته. فرض الخميني باعتباره مرشداً للثورة الحجاب على نساء ساهمن في الإطاحة بشاه إيران لصالحه، غير أنّ موته كان بمنزلة نهاية عصر لم تعد بعده ولايته ملزمة للنساء اللواتي وُلدن بعدما حقّقت الثورة هدفها. لقد ظهر نوع جديد من النساء الثائرات اللواتي لم يكن الحجاب جزءاً من قاموس تفكيرهن. وهو ما أدّى إلى الصدام بين شعب يريد أن يتحرّر من الإرشاد الديني ليمارس حياته المدنية وبين سلطة ما تزال غارقة في إرث المرشد الأعلى الذي صار منصباً وراثياً. فإذا مات الخميني فإنّ خامنئي هو وارثه، وإن مات خامنئي فإنّ هناك مَن يرثه. كان ذلك المنصب الوهمي قد شكّل عقبة حقيقية في وجه الإيرانيات اللواتي كنّ يتُقنَ إلى أن يصُغنَ الحياة بالطريقة التي تناسبهنّ. لقد حظيت إيران بظهور جيل من النسوة لم يتعرّفن على الخميني ولا على ثورته وكانت أحلامهن لا تستقيم مع الحجاب.
يحقّ لأولئك النسوة المتمرّدات على قانون الحجاب أن يتساءلن: “ما المقصود بالثورة التي يملي عليها المرشد تعليماته؟ هل هي ذلك الحدث الذي تسرّب إلى كتب التاريخ التي تُدرَّس في المدارس؟ أم هي ثورتهنّ التي لا تحتاج إلى مرشد لأنّها ثورة النساء اللواتي يمارسن الإرشاد تلقائياً بسبب طبيعة موقعهنّ في المجتمع؟”.
يمكن القول إنّ الثورة على الحجاب التي تشهدها إيران اليوم هي في حقيقتها إعلان تمرّد على كلّ القيم الذكورية التي كرّسها حكم المرشد الذي يقف على ركام من الأوهام
ذلك سؤال يحشر سلطة مرشد الثورة المطلقة في خانة ضيّقة، ويضع المرشد نفسه في مواجهة احتمالين. فهو إمّا أن يكون قد توهّم استمرار ثورته وقد عزل نفسه في مكان بعيد عن الناس وتعالى عليهم، وفي حالة من هذا النوع صار عليه أن يتلقّى المفاجآت غير السارّة، أو أن يتراجع عن أوهامه ويتخلّى عن منصبه الرثّ الذي طُويت صفحاته بوفاة الخميني وباستقرار النظام السياسي الذي نتج عن ثورته التي لم تعد صبيّة في حاجة إلى الإرشاد.
رجال الدين احتكروا “الثورة”
حين يشير أركان النظام الإيراني إلى ثورة مضادّة فإنّهم يدركون حجم الخطر الذي صارت المرأة تمثّله بعدما تمّ التنكّر لدور جيل سابق من النساء في تثوير المجتمع من خلال إضفاء الطابع الذكوري على الحياة العامّة بعد الثورة وفرض قوانين على المرأة للحدّ من حركتها، ومنها قانون الحجاب. لقد تمّ احتكار الثورة من قبل رجال الدين وهُمّشت المرأة إلى الدرجة التي دفعتها إلى إدراك حراجة موقفها الوجودي إذا ما تصرّفت بطاعة وخنوع كما لو أنّها جزء من آلة تعمل لتكريس طغيان السلطة التي يقف على رأسها مرشد الثورة. فكان لا بدّ من إعادة صياغة المفاهيم الثورية في سياق تحوّل تاريخي، ليس في إمكان رجال الدين ومنهم المرشد نفسه أن يستوعبوا ضرورته ونوع المعايير التي يقوم عليها ميزانه.
لذلك يمكن القول إنّ الثورة على الحجاب التي تشهدها إيران اليوم هي في حقيقتها إعلان تمرّد على كلّ القيم الذكورية التي كرّسها حكم المرشد الذي يقف على ركام من الأوهام معتقداً أنّ ثورته ما تزال حيّة وأنّ على المجتمع أن يؤجّل مطالبه في الحرّية والكرامة الإنسانية إلى أن تحقّق تلك الثورة أهدافها وتنتصر على المؤامرات التي تُحاك ضدّها.
إقرأ أيضاً: إيران ونساؤها في صورتين (1) : مرشدُ القتل الحنون والبهجة السوداء
إذا ما كانت إيران قد شهدت احتجاجات سابقة فكلّ تلك الاحتجاجات لم تمسّ سلطة المرشد. كان الصراع السياسي بين قوى مختلفة هو مادّة تلك الاحتجاجات، وكانت خيوط اللعبة مجتمعة بيد المرشد، إذ لم يعلن أيّ من الأطراف المتصارعة خروجه على قوانين تلك اللعبة. أمّا ثورة النساء الحالية التي حظيت بمشاركة مجتمعية لافتة فإنّها تدور في مكان آخر، مكان لا يقع تحت سلطة المرشد، بل ويرفض وظيفته ويدعو إلى إحالته على التقاعد واعتباره كما ثورة الخميني جزءاً من الماضي.