إيران ونساؤها في صورتين (1) : مرشدُ القتل الحنون والبهجة السوداء

مدة القراءة 4 د

أثوابهنّ سوداء فاحمة كلّها. فُصِّلتْ وخِيطتْ لتكون زيّاً موحّداً، فضفاضاً على أجسامهنّ الثمانية، بل التسعة، لتدارك غضب ذكورية المرشد الأعلى الدينية وإثارته وأمثاله الدنيوية. وقد يكون كلاهما، الغضب الذكوري الديني من النساء، وإثارتهن ذكورية الرجال إثارة دنيوية، واحداً ومتطابقين تمام التطابق.

أمّا المرأة التاسعة، فلا تظهر إلا أثناء إمعان التحديق في الصورة الفوتوغراقية. فهي بعيدة في عمق الصورة وحجبت رأسَها يدُ إحداهنّ المرفوعةُ عالياً. وكلهنَّ يرفعنَ عالياً أيديهنَّ، وتتدلّى من أكفّهنَّ حجاباتهنَّ السوداء التي نزعنها عن رؤوسهنّ بغضب دنيوي على الأرجح، فيما تؤدّي أصابعهنَّ إشارة النصر.

 

نصرٌ متقشِّف

لكنّ هذه الصورة الفوتوغرافية بالأسود والرمادي، وأثوابَهنّ السوداء الفضفاضة، وإدارتهنَّ ظهورهنَّ وخلفيّات رؤوسهنَّ السافرة عن شعرهنَّ الأسود، تنزع البهجة الاحتفالية التي تلابسُ، عادة، رفع الأيدي بإشارة النصر. فلا يظهر أيّ ملمحٍ من تلك البهجة الاستعراضية في وقفتهنَّ العصبية المنتصبة الجامدة، كأنّما في عزاءٍ أو مأتم يقفن بإرادتِهنَّ الصلبة الغاضبة. وقد يكون مثال الغضب المأتميّ ونموذجه الأوّل تشييع الشابّة مهسا أميني إلى مثواها الأخير، قبل نحو أسابيع ثلاثة.

سمّى المرشد الأعلى القتلَ الأوّل الذي ارتكبه حرّاسُ سلطانه وأطلق الاحتجاجات في أنحاء إيران، وفاةً أو موتاً رحيماً على شرف حنانه وعطفه وسواه في دولة الوليّ الفقيه

وهنَّ، الفتيات التسع، يقول التعريف بصورتهنَّ الملتَقَطَة بعدسة كاميرا هاتف زميلتهنّ العاشرة، إنّهنَّ طالباتُ مدرسة ثانوية في طهران. لكنّ أجسامهنَّ وزيّهنّ الأسود الموحّد ووقفتهنَّ توحي، مع المكان الذي يقفن فيه، بأنّهنَّ أكبر عمراً بكثير من طالبات ثانويات. وقد يكون ما يبديهنَّ فوق الثلاثين من أعمارهنَّ، هو: أسودُ الحِداد في أثوابهنّ، والغضب الأبيض المكتوم في قلوبهنّ وفي وقفتهنَّ، وحرصُهنَّ على ألّا يعرِّضهنَّ ظهورُ وجوههنَّ لخطر الملاحقة والاعتقال أو القتل. وهذه ذكورية كلّها، سوداء فاحمة، في قلوب وشهوات المرشدين من آيات الله ورهطهم.

 

القتل الرحيم

أمّا من توسّطت الصورة تقريباً، وأدارت وجهها للكاميرا لا ظهرها، فتقصّدت أن تحجب وجهها بلوحةٍ مدوّنةٍ عليها عباراتٍ فارسية، للسبب عينه: احتمال الملاحقة والاغتصاب والقتل.

وربّما كانت اللوحة معلّقةً على جدار في قاعة الدرس التي يقفن فيها. وعلى أعلى الجدار في القاعة أمامهنَّ معلّقةٌ لوحةٌ أخرى منقوشة عليها بالعربية عبارةُ “بسم الله الرحمن الرحيم”.

واللوحة الأخيرة هذه تشبه تماماً في حجمها الصغير وموضعها العالي، تلك الصورة الثابتة المعلّقة عالياً للإمام الخميني العبوس على جدارٍ خلف مكان جلوس وريثه آية الله المرشد علي خامنئي الموغل كملهمه الأول في القتل.

ومجلس المرشد الوريث مهيبٌ مهابةً متقشّفة عابسة ومقززة تَظهرُ في تلك المسافة القصوى التي تفصله وتُباعد بينه وبين سواه من زائريه وجُلّاسه. وهؤلاء معظمهم نسخٌ مكرّرة من بشار الأسد، ويقصدونه في مجلسه ذاك. فهو رابض فيه لا يغادره إلا لقضاء حاجاته.

فهل حدث أن شوهد المرشد الأعلى الإيراني يزور بلداً ما؟ فعظمة سلطانه تأبى أن يخرج من إيران. ومن أراد منه شيئاً من أتباعه ومواليه فعليه أن يزوره في عرينه ويجلس بعيداً منه. فهو من بين سائر الخلق حباه الله بتفرّده وقُدّس سرّه وحده لا شريك له. وهو من عليائه، بعد أسبوعين من الاحتجاجات وقَتلِ جُند جمهوريته الإسلامية وحرّاسها عشراتٍ من المحتجّين/ات على سلطانه الديكتاتوري، واعتقالهم ألوفاً من المتظاهرين/ات، قال: “لقد حطّمت قلبي بشدّة وفاة” مهسا أميني. لذا أمر بقتل أخريات مثلها وآخرين من الذين يناصرونها، كي تتجوهر مشاعر الشفقة والحنان التي يكنُّها للإيرانيّات والإيرانيّين.

إقرأ أيضاً: مهسا أميني وثورة الإيرانيات… النظام يرد بنار الأمن

نعم لقد سمّى المرشد الأعلى القتلَ الأوّل الذي ارتكبه حرّاسُ سلطانه وأطلق الاحتجاجات في أنحاء إيران، وفاةً أو موتاً رحيماً على شرف حنانه وعطفه وسواه في دولة الوليّ الفقيه. أمّا الاحتجاجات فسمّاها “أعمال شغب وضعت مخطّطها أميركا والنظام الصهيوني”، أي الشيطان الأكبر وربيبه الشيطان الأصغر، اللذان يفاوضُهما وكيل المرشد الأعلى الإيراني في لبنان. وهي مفاوضات رمادية غير مباشرة لينتصر الوكيل ورهطه نصراً جديداً على أهالي هذا البلد المنكوب، فيفوز عليهم فوزاً عظيماً باسم “مزارع بحريّة”، وفي انتظار نصرٍ آخر باسم تلك “المزارع البرّية” التي نصّبها الوكيل أسطورة خاوية هاجعة يوقظها متى أراد من الخواء والعدم.

 

الحلقة الثانية: نساء إيران وانتفاضتها.. ومأساة الربيع العربي

 

 

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…