هل فَقَد النظام السيطرة على الأوضاع في إيران؟ وهل يمكن وصف ما تشهده المدن والشوارع الإيرانية ثورة حقيقية أم هي فوضى غير منظّمة؟
لا شكّ في أنّ النظام في إيران فوجئ بحجم ردّة الفعل الشعبية على مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني داخل مركز الشرطة الأخلاقية أو شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الإرشاد في العاصمة طهران. وفوجئ أيضاً باتّساع رقعة الاحتجاجات التي شملت مدناً في الجهات الجغرافيا الإيرانية الأربع.
انتفاضة حريات نسائية
يشير ما تكشفه المادّة الإعلامية المصوّرة، التي تنشرها وسائل التواصل الاجتماعي، إلى عجز الأجهزة الأمنيّة عن لجم حجم الانتفاضة الشعبية التي تشهدها مناطق مختلفة، وتحوّلت المقرّات الأمنية أهدافاً للمتظاهرين الذين سيطروا عليها وأحرقوها، من دون تمييزهم بين قوات الشرطة أو التعبئة (الباسيج) أو حرس الثورة، ولم تسلم منهم صور المؤسّس والمرشد.
لا يزال النظام يتعامل مع الأحداث بمنطق الاستيعاب وترك الأمور تأخذ حجمها، في انتظار الوقت المناسب لشنّ هجومه المعاكس
الحقيقة التي تثبتها الانتفاضة التي تشهدها إيران حالياً أنّ هذا الحراك الشعبي لا رأس له، وليس على استعداد للاستماع إلى أوامر أيّ من الأطراف، ولا يعترف بكلّ القوى السياسية المعارضة، سواء في الداخل الإيراني أو الخارج. وما يقوم به المحتجون حالياً هو التعبير المباشر عن تراكم المطالب والظلم والتهميش والغضب من ما تعرّض له المجتمع الإيراني من قمع على مدى العقود الماضية. وهم/هن ليسوا على استعداد للجلوس أو الحوار مع النظام والسلطة. ولا يعترفون بهذه المنظومة الساعين في تغييرها ومحاسبتها، ولا بالمنطق والخلفيّة الدينيَّين اللذين استخدمهما النظام في إدارة البلاد والمجتمع.
ربّما يكون النظام وأجهزته، وقد فوجئآ بانفجار الغضب الشعبي وحجمه نتيجة الجريمة التي قتلت مهسا، وتُعتبر في منطق السلطة والأجهزة الأمنيّة حادثة عابرة وتحصل في أيام كثيرة، وتماثلها حوادث مشابهة لم تتسبّب بردود فعل في الشارع عجز النظام من قمعها والسيطرة عليها.
لا يزال النظام يتعامل مع الأحداث بمنطق الاستيعاب وترك الأمور تأخذ حجمها، في انتظار الوقت المناسب لشنّ هجومه المعاكس، على غرار ما فعله مع التحرّكات السابقة التي كانت أكثر خطورة وواضحة الخلفيّات السياسية، ومنها الحركة الخضراء سنة 2009 والتي استمرّت 8 أشهر.
الحركة الخضراء والحراك الراهن
لعلّ التحدّي الأبرز الذي تواجهه أجهزة النظام، التي عمدت إلى استخدام العنف في تصدّيها لهذا الحراك، هو سقوط قتلى وجرحى واعتقالات كثيرة من الفتيات والشبّان في مدن ومحافظات إيرانية. وهذا الحراك لا قيادة له، على خلاف الحركة الخضراء التي تمكّنت الأجهزة من السيطرة عليها بالضغط على زعيمَيْ الحركة مهدي كرّوبي ومير حسين موسوي، وفتحت السجون لأكثر من 300 شخصية قيادية في الحياة السياسية والأحزاب الإصلاحية التي لعبت دوراً قيادياً في الشارع في تلك المرحلة.
على الرغم من الاستعدادات التي قامت بها أجهزة النظام للتعامل مع انفجار الشارع على خلفيّة الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت نتيجة العقوبات الاقتصادية وفشل الحكومة في إدارة الملفّ المعيشي للمواطنين، فإنّ هذه الأجهزة لم تكن تتوقّع أن يأتي الانفجار لأسباب حريات النساء الشخصية. ولذلك حاولت قيادة النظام وأجهزته استيعاب ردّة الفعل، ورصد التداعيات والجماعات التي قد تنضمّ إلى هذا الحراك، للحؤول دون تحوله من شعار الحرّيات الشخصية والاجتماعية إلى الشعارات السياسية، التي تسمح للأجهزة بتدخّل كبير والانتقال إلى القمع الواسع والسيطرة على الشارع وإنهاء الاحتجاجات تمهيداً لنوع استعراضيّ من المحاكمات، وحتى الإعدامات.
المرشد والتصدي الأمني
المؤشّر إلى انتظار النظام وتريّثه في اتّخاذ موقف متشدّد على المستوى السياسي من هذا الحراك، هو ما ظهر في اللقاء الذي أجراه المرشد الأعلى للنظام يوم الأربعاء 21/9 مع قدامى المحاربين في الحرب العراقية الإيرانية، والذي شارك فيه جميع القادة السياسيين والعسكريين والأمنيّين، وكأنّ البلاد تعيش حال استنفار تامّ. والمرشد لم تطرّق في الخطاب الذي ألقاه تحت شعار “نصر من الله وفتح قريب”، لا من قريب أو بعيد إلى الأحداث والاحتجاجات التي اندلعت نتيجة قتل مهسا أميني.
يعود سكوت المرشد عمّا يجري في شوارع المدن وعن الاضطرابات وما تتعرّض له الأجهزة الأمنيّة وموقع وليّ الفقيه من استهداف، إلى آليّة تعامل النظام ومرشده مع مثل هذه الأحداث. إذ يجب ألا يتدخل المرشد في الأزمة في لحظاتها أو أيامها الأولى، بل في مراحلها النهائية بعد أن تنهي الأجهزة الحراك بالوسيلة المناسبة، وتطمئن إلى أنّ الأمور باتت تحت السيطرة وقضي على مصادر الخطر.
توظيف كردي
يسمح صمت المرشد وابتعاده عن موقف الأجهزة المباشر بتوظيف ما تملكه من مقدرة على تفكيك الحراك. في الاحتجاجات على قتل مهسا أميني يبدو أنّ هذه الأجهزة بدأت بتوظيف الحراكات الانفصالية الكردية التي سارعت إلى الانضمام إلى الحراك الشعبي لإخراجه من حالته العفوية والشعبية وتأطيره في سياقات حزبية من خلال شعارات حزبية وانفصالية خاصة بجماعة عبدالله أوجلان.
وهذا ما سارع إلى القيام به كلّ من الحزبين الكرديَّين الأساسيَّين “بجاك” أو “الحياة” الإيراني وحزب العمّال الكردستاني (جماعة أوجلان)، إضافة إلى ارتفاع بعض الأصوات من قوميّات أخرى تتبنّى دعوات انفصالية في أذربيجان الإيرانية وخوزستان العربية. إنّ انضمام هذه الأطراف إلى الحراك يعطي النظام هامشاً واسعاً لممارسة أعلى أنواع القمع والقتل والاعتقال، بذريعة الدفاع عن وحدة الأراضي الإيرانية والتصدّي لمؤامرات تستهدف السيادة الإيرانية.
إقرأ أيضاً: إيران تعتمد “الأسلوب” الإسرائيلي في الجزر الإماراتية؟
في موازاة التوتّر الذي تعيشه الأوساط السياسية والاجتماعية بسبب تداعيات هذه الأحداث وما يمكن أن تذهب إليه وآثارها على مستقبل النظام وإيران، يبدو أنّ الحكومة التزمت الموقف الرسمي للنظام بإهمال الاستجابة السريعة لمعالجة هذه الاحتجاجات، وتركها للجانب الأمنيّ. وهذا يظهر في تصرّفات رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي الذي لم يقطع زيارته لنيويورك للمشاركة في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، مع ترجيح استمراره في عقد لقاءاته مع قادة الدول وعقد حلقات حوار لتسويق سياساته، وكأنّ المدن الإيرانية تعيش استقراراً لا تعكّره أيّ تظاهرات وحركات احتجاجية.