ليست الزيارة التي قام بها الرئيس الإماراتي الشيخ محمّد بن زايد لموسكو حيث التقى الرئيس فلاديمير بوتين سوى ممارسة لدور قيادي في عالم يفتقد من يستطيع لعب مثل هذا الدور. إنّه عالم صار فيه عدد رؤساء الدول الذين يستطيعون ممارسة دور قيادي يُعدّون على أصابع اليد الواحدة… صاروا عملة نادرة بالفعل.
قبل كلّ شيء، إنّ الزيارة أُعدّ لها منذ فترة وليست وليدة الساعة، وهي تُظهر بُعد نظر يمتلكه محمّد بن زايد في مواجهة قضيّة في غاية التعقيد. باتت الحرب الأوكرانيّة التي تسبّب بها بوتين تهدّد الأمن العالمي، باعتراف الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه، الذي تحدّث عن خطر خراب البشرية. تبيّن، في ضوء الأحداث، أنّ فلاديمير بوتين ليس شخصاً طبيعياً وليس هناك من يعرف إلى أيّ مدى يستطيع أن يذهب في حال استمرّ محشوراً في الزاوية، التي وضع نفسه فيها، في غياب مخرج يحفظ له ماء الوجه… في انتظار يوم سيتوجّب فيه عليه تقديم حساب إلى الشعب الروسيّ.
لوضع الصعب الذي يوجد فيه فلاديمير بوتين يبقى أفضل تعبير عنه وحشيّة القصف الذي يمارسه الجيش الروسي حاليّاً والذي يستهدف مدناً أوكرانية وتجمّعات سكّانية ومنشآت مدنية وعسكرية
كان الشعب الروسي، بأكثريّته طبعاً، مؤيّداً في البداية للحرب على أوكرانيا التي اندلعت في الرابع والعشرين من شباط الماضي. لكنّ هذا التأييد تراجع مع مرور الوقت وانكشاف الأخطاء التي ارتكبها بوتين. في طليعة هذه الأخطاء الاستخفاف بمقاومة الجيش الأوكراني وفشله في شنّ حرب خاطفة. كذلك تجاهل مدى الدعم الغربي لأوكرانيا ومعنى تزويدها أسلحة متطوّرة كشفت الفارق بينها وبين السلاح الروسي. اضطرّ فلاديمير بوتين في نهاية المطاف إلى إعلان “التعبئة الجزئيّة” التي تعني تجنيد 300 ألف شابّ روسيّ. أدّى ذلك إلى غضب شعبيّ وإلى هرب 370 ألف روسيّ من روسيا. فرّ هؤلاء إلى بلدان الجوار، كجورجيا على سبيل المثال.
صحيح أنّ الوضع الصعب الذي يوجد فيه فلاديمير بوتين يبقى أفضل تعبير عنه وحشيّة القصف الذي يمارسه الجيش الروسي حاليّاً والذي يستهدف مدناً أوكرانية وتجمّعات سكّانية ومنشآت مدنية وعسكرية. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ هناك واقعاً لا مفرّ من التعامل معه. هذا ما فعله رئيس دولة الإمارات الذي يسعى إلى تفادي الكارثة التي يمكن أن يتسبّب بها استمرار القطيعة مع بوتين.
إلى إشعار آخر، لدى روسيا أسلحة نووية. إضافة إلى ذلك، تسبّبت الحرب على أوكرانيا بأزمة طاقة تبدو أوروبا، فضلاً عن مناطق أخرى كثيرة في العالم، عاجزة عن الخروج منها في المدى المنظور. هناك أيضاً أزمة غذاء في العالم. أدّت الأزمة إلى تهديد مباشر لمواطني دول العالم الثالث ولاقتصاد هذه الدول. خلاصة الأمر أنّ العالم كلّه يعاني من ركود اقتصادي. عالم ما بعد حرب أوكرانيا ليس مثل عالم ما قبل حرب أوكرانيا، هذا إذا أخذنا في الاعتبار أيضاً أنّ العالم كلّه لم يخرج نهائياً بعد من جائحة “كوفيد – 19”.
تحرّك محمّد بن زايد، ليس بصفة كونه مسؤولاً عن المواطن الإماراتي وكلّ مقيم في الإمارات فحسب، بل تحرّك أيضاً كرئيس دولة تتطلّع إلى الاستقرار في هذا العالم و”ضمن خياراتنا المستقلّة”، على حد تعبير أنور قرقاش مستشار الرئيس الإماراتي الذي قال في تغريدة له: “زيارة صاحب السموّ رئيس الدولة لروسيا مُجَدْوَلة مسبقاً في إطار العلاقات الثنائية وضمن خياراتنا السياديّة المستقلّة، ورغم ذلك، فإنّ ما تشهده الحرب في أوكرانيا من تصعيد يتطلّب حلّاً عاجلاً عبر الدبلوماسيّة والحوار واحترام قواعد القانون الدولي ومبادئه. هذا موقف الإمارات الثابت والراسخ”.
تستحقّ المبادرة الإماراتية تجاه روسيا كلّ دعم، وذلك بغضّ النظر عن الموقف من فلاديمير بوتين وسلسلة الأخطاء التي ارتكبها
تلعب الإمارات الدور المفروض عليها لعبه في سياق سياسة ثابتة يتحكّم بها المنطق والحكمة والجرأة في الوقت ذاته. ليس ذلك غريباً عن محمّد بن زايد، خصوصاً إذا نظرنا إلى أنّه يسير على خطى المؤسّس لدولة الإمارات الشيخ زايد بن سلطان، رحمه الله، الذي جمع بين الجرأة والواقعية والحكمة والمنطق في آن. مكّنه ذلك من بناء دولة قائمة قبل كلّ شيء على الرغبة في دعم الاستقرار والسلام في المنطقة والعالم في ظلّ فكر التسامح. لو أراد الشيخ زايد سماع الأصوات التي كانت تدعوه إلى التخلّي عن مشروعه الوحدويّ، لَما كانت تجربة دولة الإمارات المتميّزة. تتميّز هذه التجربة على وجه الخصوص بالبعد عن كلّ تقوقع من جهة وباتّخاذ مواقف شجاعة في خدمة الإنسانية من جهة أخرى.
تستحقّ المبادرة الإماراتية تجاه روسيا كلّ دعم، وذلك بغضّ النظر عن الموقف من فلاديمير بوتين وسلسلة الأخطاء التي ارتكبها. ليس طبيعيّاً انقطاع الحوار مع رجل، لا يمكن تجاهل قدرته على خلق كلّ أنواع المتاعب في هذا العالم. يعبّر محمّد بن زايد عن القدرة على ممارسة سياسة مستقلّة تصبّ في خدمة السلام والاستقرار في هذا العالم.
ما البديل من الحوار مع بوتين من دون الخضوع لشروطه بل في إطار احترام القانون الدولي ومبادئه؟ لا وجود لبديل فعليّ وعمليّ ومنطقيّ من ذلك. حتّى الانتصار على روسيا ليس خياراً لأنّ ذلك سيخلق مزيداً من المتاعب في بلد فشل في تنويع اقتصاده على الرغم من كلّ ما يمتلكه من قدرات. على العكس من ذلك، بقي الاقتصاد الروسي اقتصاداً غير منتج يتّكل على دخل النفط والغاز وتصدير الأسلحة. كشفت حرب أوكرانيا مدى تخلّف السلاح الروسي. لكنّها كشفت أيضاً مدى الأذى الذي يستطيع أن يتسبّب به شخص مثل فلاديمير بوتين على الصعيد العالمي.
إقرأ أيضاً: إيران واستثمار ترسيم الحدود.. في الداخل اللبنانيّ
من سيحاسب فلاديمير بوتين في نهاية المطاف هو الشعب الروسي. في الوقت الحاضر، تبقى أيّ تسوية معقولة تحترم الشرعيّة الدولية أقلّ كلفة من استمرار حرب يصعب التكهّن بنتائجها. في حال هُزمت روسيا في أوكرانيا، ستكون هناك ارتدادات لهذه الهزيمة في آسيا الوسطى حيث توجد جمهوريات عدّة ما زالت تدور في الفلك الروسي. في النهاية مطلوب ضبط روسيا وعدم تفكيكها على غرار ما حصل مع الاتحاد السوفييتي في عالم يشهد تطوّرات كبيرة في ظلّ غياب قيادة أميركيّة تمتلك رؤية، قيادة أميركيّة لا تميّز بين الحليف وغير الحليف!