ليس التوصّل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل حدثاً عاديّاً في هذه الظروف التي تمرّ فيها المنطقة والعالم. يأتي الاتفاق في وقت تتخبّط إيران في ثورة حقيقية تقودها المرأة، ويصعب التكهّن بنتائجها. وهناك كذلك الحاجة الأوروبيّة الملحّة إلى الغاز، في ضوء حرب روسيا على أوكرانيا، وانقطاع شبه كلي للغاز الروسي عن معظم دول القارّة العجوز، وحاجتها إلى الغاز الإسرائيلي الذي يُصدَّر إليها بعد معالجته في مصر.
واجهة مسيحية بهلوانية
في النهاية، توصّل “حزب الله”، وهو لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، إلى اتفاق حدودي مع إسرائيل بوساطة أميركيّة. لم يكن ممكناً التوصّل إلى مثل هذا الاتفاق لولا واجهة مسيحيّة لبنانيّة يوفّرها الثنائي الرئاسي ميشال عون – جبران باسيل، مستعيناً بنائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب الذي مارس كلّ البهلوانيّات التي يمكن ممارستها للقول إنّ الاتفاق بين لبنان والولايات المتحدة… وبين إسرائيل والولايات المتحدة.
لعب “العهد القويّ” في آخر أيّامه الدور المطلوب منه أن يلعبه: أن يكون مرّة أخرى “عهد حزب الله”. ونراه حاليّاً يثبت ذلك فيما اقتربت ساعة خروج ميشال عون من قصر بعبدا بعد سنوات ستّ من الخراب والدمار والتدمير الممنهج للمؤسّسات، خصوصاً مؤسّسة القضاء… والنظام المصرفي اللبناني.
ليس التوصّل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل حدثاً عاديّاً في هذه الظروف التي تمرّ فيها المنطقة والعالم
أثبت ميشال عون في سنوات وجوده في قصر بعبدا، كرئيس للجمهوريّة، أنّه لا يستطيع أن يكون شيئاً آخر غير أداة. حصل في أثناء مكوثه للمرّة الثانية في قصر الرئاسة، بعد حقبة 1988 – 1990، على ترقية محترمة هذه المرّة. تحوّل “الجنرال” من أداة تعمل لحسابها الخاص إلى أداة عند الأدوات. أي أداة لدى “حزب الله” الذي ليس سوى امتداد للمشروع التوسّعي الإيراني.
عدوانية إيران تهادن إسرائيل
يبدو القرار الإيراني واضحاً كلّ الوضوح: لا تستطيع “الجمهوريّة الإسلاميّة” المغامرة في خسارة “حزب الله” في مرحلة أخذت فيها على عاتقها متابعة جهودها لعقد صفقة مع “الشيطان الأكبر”، تسمح لها بالحصول على التمويل المطلوب للاستمرار في خدمة مشروعها التوسّعي. لذلك نجدها تتراجع في مكان وتمارس العدوانيّة في مكان آخر: تمارس العدوانيّة في اليمن حيث يرفض الحوثيون (جماعة أنصار الله) تمديد الهدنة التي انتهت في الثاني من الشهر الجاري. وتمارس العدوانيّة داخل العراق حيث عطّلت اللعبة السياسية عبر الأطراف السياسية الموالية لها. وتمارس العدوانيّة على العراق بقصف “الحرس الثوري” إقليم كردستان فيه. وتمارس العدوانيّة في سوريا أيضاً مستفيدة من تراجع الوجود العسكري الروسي فيها في ضوء ما يدور في أوكرانيا حيث غرق فلاديمير بوتين في فخّ نصبه لنفسه ولبلده.
يبدو الوضع مختلفاً في لبنان. تعرف “الجمهوريّة الإسلاميّة”، قبل غيرها، أن ليس في استطاعتها منع إسرائيل من استخراج الغاز من حقل كاريش، لا لشيء إلّا لأنّ ذلك يعني حرباً مدمّرة للبنان، المدمَّر أصلاً، ولـ”حزب الله” في الوقت عينه. فغاز كاريش الأسرائيلي صار مرتبطاً بالأمن الأوروبي، في ضوء القرار الغربي بالاستغناء عن الغاز الروسي مهما كان الثمن.
يظلّ أهمّ ما في الاتفاق المفترض أن يوقّعه لبنان مع إسرائيل التي ضمنت استخراج الغاز من كاريش في ظروف آمنة، وهذا ما سمح لرئيس الوزراء يائير لابيد ووزير الدفاع بيني غانتس بوصف الاتفاق بأنّه “تاريخي”، أنّ كاريش سيبدأ بالإنتاج بغطاء لبناني وإيراني وأوروبي وأميركي. وذلك بغضّ النظر عن نتائج الانتخابات الإسرائيلية مطلع الشهر المقبل، وعن احتمال عودة بنيامين نتانياهو رئيساً للوزراء أم عدم عودته.
غاز قانا وثورة الإيرانيين
أمّا ما يحلّ بلبنان، فأمر لا يهمّ إسرائيل التي تعمل على حماية مصالحها الخاصّة، ولا يهمّ الأميركيين المنشغلين بأوكرانيا وانتخابات الكونغرس في السادس من تشرين الثاني المقبل. فكلّ ما يهمّ أميركا هو أمن إسرائيل!
عثر لبنان على غاز في حقل قانا أم لم يعثر، ليس ذلك شأناً إسرائيلياً، خصوصاً بعدما ضمنت الدولة العبريّة، عبر شركة “توتال”، حصّتها من عائدات قانا… هذا في حال البدء بتشغيل الحقل في يوم من الأيّام!
يبقى السؤال: كيف سيستثمر “حزب الله” الاتفاق مع إسرائيل في الداخل اللبناني؟
الأكيد أنّ الاتفاق يسمح له بأن يكون مرتاحاً إلى وضعه الداخلي أكثر من أيّ وقت. سيسيطر على لبنان سيطرة تسمح بالتأكيد لـ”مرشد” الجمهوريّة اللبنانيّة الموجود في الضاحية الجنوبيّة أنّ يكون صاحب القرار الأوّل والأخير في شأن كلّ ما له علاقة برئاسة الجمهوريّة، وبالصغيرة والكبيرة في لبنان. ولا رئيس جديداً للجمهوريّة لا يحظى بموافقة الحزب… فيما خيار الفراغ مقبول ويرحب به الحزب وإيران.
إقرأ أيضاً: رسم الحدود مع إسرائيل… رسالة إيرانيّة إلى واشنطن
يبقى أيضاً سؤال آخر أكثر أهميّة، يتعلّق بما يجري في داخل “الجمهوريّة الإسلاميّة”، حيث ثورة شعبيّة حقيقيّة تهزّ أركان النظام الذي يواجه تحدّياً لا سابق له منذ قيامه في العام 1979. يعود ذلك إلى أنّ رفض النظام يعمّ المناطق والشعوب الإيرانيّة كلها.
يتوقّف ما يحدث في لبنان على مستقبل هذا النظام الإيراني، وما إذا كانت أميركا ستهبّ لإنقاذه كما حصل في الماضي في مناسبات عدّة.