يمكن وضع مشروع الاتفاق بين لبنان وإسرائيل في شأن ترسيم الحدود البحريّة بينهما في إطارين ضيّقين وإطار ثالث أوسع ذي بعد إقليمي وأوروبي ودولي. يتمثّل الإطار الضيّق الأوّل في حاجة لبنان، خصوصاً الحزب الحاكم (حزب الله)، إلى إنجاز ما يعيد الاعتبار إلى سلاحه، في ظلّ أزمة مصيريّة في بلد فَقَد كلّ مقوّمات وجوده. فوجود لبنان ومستقبل أبنائه باتا على المحكّ، بعدما أمعن الحزب عينه في تدمير كلّ قطاعاته، بما في ذلك القطاع المصرفي. بل دمّر مقوّمات وجود لبنان تدميراً كاملاً بطريقة ممنهجة.
ما يدور في العالم، خصوصاً في ضوء الحرب الأوكرانيّة والموقف الأوروبي من روسيا وغازها، أنّ الحاجة زادت إلى الغاز الإسرائيلي الذي يعالَج في مصر ويُنقل منها إلى الدول الأوروبيّة
حزب اختيار الرئيسين
أمّا الإطار الضيّق الثاني فهو إسرائيليّ داخليّ في بلد يعاني من أزمة من نوع مختلف. يبقى أفضل تعبير عن الأزمات الإسرائيليّة إجراء انتخابات نيابية للمرّة الخامسة في غضون أربع سنوات. وسيكون ذلك في أوّل تشرين الثاني المقبل.
ثمّة حاجة لدى “حزب الله” إلى ترسيم الحدود البحريّة لاستكمال انتصاره على لبنان واللبنانيين وتكريس سيطرته على البلد، بعدما أثبت أنّه صار الطرف الذي يقرّر من هو رئيس الجمهوريّة الماروني في لبنان. من لديه أدنى شكّ في ذلك، يستطيع العودة إلى فرض ميشال عون رئيساً للجمهوريّة في آخر تشرين الأوّل 2016. وحزب الله بات هو من يقرّر ما إذا كان مسموحاً لرئيس الوزراء المكلّف تشكيل حكومة أم لا.
أكثر من ذلك، أثبت الحزب إياه، عن طريق الأوراق البيض الـ63 في جلسة انتخاب رئيس الجمهوريّة، أنّه قادر على امتلاك أكثريّة في مجلس النواب الحالي. لم يعد شيء يمنعه، حين تدعو الحاجة، من إضافة نائبين أو أكثر من التغييريّين أو من غير التغييريّين إلى النواب الـ63 الذين أسقطوا ورقة بيضاء هذا في حال تحقيق نصاب الجلسة أي 87 نائباً.
نتانياهو يخدم حزب الله
في المقابل، مطلوب إسرائيليّاً منع عودة زعيم تكتّل الليكود بنيامين نتانياهو إلى موقع رئيس الوزراء. هذا ما يفسّر إلى حدّ كبير هذا الدعم الأميركي كله لرئيس الحكومة الحالي يائير لابيد الذي يتّهمه نتانياهو بتقديم “تنازلات” إلى “حزب الله”. تُعتبر مثل هذه التهم أفضل خدمة لحزب الله الذي يبحث حالياً عن أصوات إسرائيلية تتحدّث عن فرض شروطه على إسرائيل… بفضل صواريخه وطائراته المسيّرة!
في سياق المعركة السياسية الدائرة في إسرائيل بين لابيد وبني غانتس من جهة، و”بيبي” (نتانياهو) من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل أنّ لدى الإدارة الأميركيّة الحاليّة حساسيّة زائدة تجاه زعيم الليكود، وهي تفضّل بقاءه خارج السلطة في ضوء عجزها عن التعامل معه.
في نهاية المطاف، في حال انتصر “بيبي” أو هزمه لابيد وغانتس، يبقى الإطار الثالث، أي الإطار الأوسع، أهمّ ما في الاتفاق اللبناني – الإسرائيلي الذي لعبت فيه الإدارة الأميركيّة عبر آموس هوكستين دور الوسيط الفعّال الذي يعرف ما يدور في العالم.
لبنان يتلهى بالقشور
ما يدور في العالم، خصوصاً في ضوء الحرب الأوكرانيّة والموقف الأوروبي من روسيا وغازها، أنّ الحاجة زادت إلى الغاز الإسرائيلي الذي يعالَج في مصر ويُنقل منها إلى الدول الأوروبيّة. هيّأت إسرائيل نفسها منذ ما يزيد على عشرة أعوام لسدّ حاجتها الداخليّة من الغاز، وتهيأت لتصدير هذا الغاز عبر شبكة مصالح تبدأ بمصر وتنتهي في قبرص واليونان.
في الوقت عينه يتلهّى لبنان في كلّ ما له علاقة بالقشور من نوع كيفية التعاطي مع إسرائيل، من دون التعاطي معها، وهل هي موجودة أم لا؟ يتلهّى لبنان بالقشور بدل السعي إلى معرفة هل لديه في بحره كمّيّات من النفط والغاز. ليس معروفاً، إلى الآن، هل من غاز في حقل قانا وغيره من الحقول، في حين أنّ الثابت أنّ إسرائيل ستستخرج قريباً الغاز من كاريش.
إيران والشيطان الأكبر
يبقى أهمّ ما في الاتفاق الذي صيغ صياغة أميركيّة: أبلغ هوكستين المسؤولين اللبنانيين منذ البداية أنّ خط التفاوض هو الخط 23، وأنّ عليهم عدم إضاعة الوقت في البحث عن خطوط أخرى من نوع الخط الرقم 29 الذي يؤكّد خبراء كثيرون أنّه الخط الواجب اعتماده.
في النهاية، لم يوقّع لبنان اتّفاقاً مع طرف وهمي. الأهمّ من ذلك كلّه أنّ الغاز الإسرائيلي صار جزءاً من الأمن الأوروبي. لذلك كان المطلوب توفير الضمانات كي يُستخرج النفط من كاريش وغير كاريش. غاب عن بال معظم اللبنانيين أنّ إسرائيل تصدّر الغاز منذ سنوات طويلة، فيما لبنان يتفرّج وسيبقى في موقع المتفرّج في غياب مرجعيّة سياسيّة في البلد باستثناء الأمين العامّ لحزب الله حسن نصرالله. معنى ذلك، بكلّ بساطة، أنّ هناك أجندة إيرانيّة ليس لبنان سوى جزء منها.
إقرأ أيضاً: خطاب يختزل مأساتَيْ سوريا… ولبنان
ما الذي أرادته “الجمهوريّة الإسلاميّة” من وراء السماح للبنان بتوقيع اتفاق يرسّم الحدود البحريّة مع إسرائيل في هذا التوقيت بالذات؟ الأمر يبدو رسالة إلى واشنطن. تعني هذه الرسالة، بين ما تعنيه، أنّها مستعدّة لمراعاة “الشيطان الأكبر” في كلّ ما له علاقة بأزمة الطاقة في العالم من جهة، وأنّها معنيّة بالمحافظة على الدور المهيمن لـ”حزب الله” في لبنان من جهة أخرى. لا تزال المحافظة على هذا الحزب أولويّة إيرانيّة بغضّ النظر عمّا يحلّ بلبنان واللبنانيين، وبغضّ النظر عمّا إذا كان لبنان سيستفيد من الغاز الذي قبالة شواطئه. وهو غاز في حاجة إلى شركات عالميّة تثبت وجوده أوّلاً وتعمل على استخراجه في يوم من الأيّام.