ماذا لو وقّعت إيران، فرضيّاً، على اتّفاق نووي على ورقة بيضاء فيه إذعان كامل لرغبات العالم واستجابة كلّيّة لأيّة مخاوف نووية مع تسليم غير مشروط بالمطالب الفنيّة والتقنيّة التي تمنع أيّ عمليات تخصيب؟
سؤال المليار دولار: هل خطر نظام الحكم في طهران ينحصر فقط في الخطر النوويّ؟
الخطر الإيراني ليس فقط في السلاح النووي لكن في “العقل والنفسية والذهنية” التي يمكن أن تضغط على زر نوويّ أو صاروخ باليستي أو تعطي أمراً بتحريض هنا أو اختراق هناك.
الخطر في المال السياسي، ودعم جماعات التشدّد المذهبي في لبنان وسوريا والعراق واليمن وغزّة.
الخطر في قرار تصفية زعيم سياسي أو تفجير مبنى أو حزام ناسف.
الخطر في تدريب ميليشيات وتسليحها ضدّ إرادة شعوبها وأنظمتها.
الخطر في تعطيل حكومات وإفشال انتخابات وتجميد اختيار رؤساء، وتخريب مفاوضات هدنة، وإفشال تنفيذ قرارات دوليّة تؤدّي إلى إيقاف مساعدات إنسانية وتحقيق أضرار اقتصادية.
ليس مكمن الخطر في وجود مشروع نووي إيراني، لكن في وجود تلك العقليّة والذهنيّة والإرادة التي تدير هذه القوّة النووية
يبدأ الخطر بقرار، والقرار ينطلق من فكرة، والفكرة تتحوّل إلى مشروع له أهداف وموازنة ماليّة وسلاح وتدريب ومتابعة شبه يوميّة.
هنا نسأل السؤال الساذج: ما هو المشروع الإيراني؟
من الممكن أن ندّعي كذباً من قبيل التحريض أو العداء على المشروع الإيراني، لذلك نرى أنّ من الأفضل تعريف هذا المشروع كما جاء رسمياً ونصّاً على لسان أصحابه وفي أدبيّاتهم.
هذا المشروع منصوص عليه في مبادئ الدستور الإيراني الذي صدر في عهد وبرعاية كاملة من آية الله الخميني عام 1979.
الدستور الإيراني غيبيّ، مذهبيّ، واضح، صارم، ينصّ في مادّته الخامسة على أنّ “ولاية الأمر وإمامة الأمّة في الجمهورية الإسلامية في زمن غيبة الإمام المهدي (الإمام الثاني عشر عند الشيعة الإماميّة) تكون بيد الفقيه العادل المتّقي العالِم بأمور زمانه، الشجاع الكفوء في الإدارة والتدبير ويتولّى منصبه وفقاً للمادة 107”.
يضع الدستور الإيراني قائد الثورة الإسلامية أو الوليّ الفقيه على رأس الهرم السياسي للبلاد.
يمارس الوليّ الفقيه هذه السلطات وفق 11 صلاحيّة أساسيّة ومطلقة وحاكمة تتّصل بكلّ شؤون البلاد.
يلعب “الحرس الثوري” دور الأداة الضامنة أمنيّاً في الداخل وفي الخارج لهذا النظام ، ويبثّ الثورة الإسلامية في الداخل وينشرها في الخارج حتى تكون البيئة الإقليمية والدولية جاهزة إلى حين عودة الإمام الغائب.
إيران الدولة والمكان والمكانة لاعب إقليمي ودولي لا يمكن تجاهله بأيّ شكل من الأشكال. وقد بلغ عدد سكّانها 85 مليوناً، 98 في المئة من سكّانها مسلمون وأكثر من 90 في المئة منهم من الطائفة الشيعية الكريمة.
تبلغ مساحتها ما يساوي مساحة بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا مجتمعة، وهي الدولة رقم 18 في المساحة الأرضيّة.
تتحكّم إيران بمضيق هرمز الاستراتيجي، وهي منتج أساسي للنفط وثاني دولة في احتياطات الغاز، وتمتلك قاعدة علميّة من الباحثين والعلماء.
إذاً نحن أمام لاعب إقليمي ودولي مهمّ جدّاً لديه مشروع مذهبي سياسي غيبيّ يسعى إلى فرضه بالقوّة المسلّحة على شعبه وتصديره بالإرغام والتدخّل المباشر عبر الوكلاء في المنطقة.
ليس مكمن الخطر في وجود مشروع نووي إيراني، لكن في وجود تلك العقليّة والذهنيّة والإرادة التي تدير هذه القوّة النووية.
تؤمن الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أنّ الجهد الدولي الذي يجب أن يُبذل مع إيران يجب أن لا يركّز على وضع قيود تقنيّة تحُدّ من إمكانية التخصيب النووي، بل يجب أن تنصبّ بشكل مباشر على “إلغاء” كلّ الوجود النووي في إيران.
تؤمن إسرائيل بـ”إلغاء” لا تنظيم المشروع النووي الإيراني، وتؤمن بأنّ النوايا النووية الإيرانية حكماً غير سلميّة.
من منظور قوى الاعتدال في المنطقة هناك ما يمكن وصفه بـ”إيران الخطرة” و”إيران المقيّدة”.
“إيران الخطرة” هي التي تخرج عن حدودها وتسعى إلى فرض مشروع الثورة الشيعية على جيرانها، وتتدخّل بالمال السياسي والتدريب الميليشياوي، والتسلّح الذي يبدأ من الكلاشنيكوف والطائرة المسيّرة ويصل إلى الصاروخ الباليستي.
“إيران الخطرة” ترى في الأشقّاء والجيران والحكومات والجيوش مجرّد وكلاء تنفيذيّين لمشروع ولاية الفقيه.
في هذا المشروع يسقط مفهوم الدولة الوطنية المستقلّة، وتصبح الدول الأخرى مجرّد أدوات، “وكلاء”، أو كما يسمّونهم “أصدقاء”، “حلفاء”، “شركاء مصير” في “مشروع شريف هو مشروع دولة الوليّ الفقيه”.
أمّا “إيران المقيّدة” فهي مشكلة هذه البقعة من العالم من وجهة نظر معسكر الاعتدال العربي الذي ينطلق أساساً من عدم وجود أيّ عداء مذهبي أو طائفي للطائفة الشيعية الكريمة أو لمذهب الإماميّة الاثني عشريّة أو للعرق الفارسي أو للتاريخ الصفوي.
“إيران المقيّدة” يجب أن تكون أوّلاً مفيدة لشعبها الصبور المتعدّد الأعراق والأصول والذي يتحدّث ناسه بأكثر من 120 لغة.
“إيران المقيّدة” لا تبدّد مواردها على غزوات وتدخّلات وتمويل وكلاء عبر الحدود وتسليحهم وتدريبهم ودعمهم بدءاً من طنّ الطحين إلى الصاروخ الباليستي.
“إيران المقيّدة” تضع الأولويّة في التنمية لشعبها، فلا يصحّ لدولة ذات ثروات عظمى من النفط والغاز والمنتجات الزراعية والفاكهة أن يعاني شعبها من انقطاع مياه الشرب في أصفهان أو البطالة في طهران أو عدم توافر السلع الأساسية في تبريز.
“إيران المقيّدة” هي التي تنسجم وتندمج مع جيرانها في المنطقة من منطلق احترام السيادة والتعاون التنموي الذي تُستخدم فيه الثروات والطاقة الإيرانية لخدمة الجميع.
“إيران المقيّدة” تقلّم أظافر الحرس الثوري داخل المؤسسات التنفيذية في البلاد، وتعطي الأولويّة في الملكية الاقتصادية للاقتصاد الحرّ وليس لمؤسسات الحرس الثوري الاحتكارية.
“إيران المقيّدة” ببساطة تصبح دولة طبيعية، أي من حقّها أن يكون لها مشروعها الخاصّ بها، لكن داخل أسوار حدودها ويتمّ تنفيذه طواعية وبعد قناعة مواطنيها وليس بفرض على أسُنة الرماح والمعتقلات وأعلى معدّل قرارات إعدام سياسي في كوكب الأرض.
لا أحد لا يريد لإيران أن تكبر وتنمو وتتطوّر وتصبح دولة مدنية عصرية متطوّرة سوى إسرائيل التي ترى في المشروع التحديثي الإيراني خطراً مضادّاً للمشروع العبري الصهيوني.
لقد ابتليت المنطقة بأربعة مشاريع تعاني منها:
1- مشروع تركي عثماني.
2- مشروع إيراني فارسي طائفي.
3- مشروع إسرائيلي عبري صهيوني.
4- أخيراً اللامشروع العربي الفاقد للاستراتيجية والآليّة!
حركة اليوم والغد في المنطقة سوف تدور حول حجم التناغم والصراع بين هذه المشروعات المطروحة والمتفاعلة بقوّة.
إقرأ أيضاً: بدايات متفجّرة للعام 2023!
باختصار:
خطر إيران ليس في مشروعها “النووي للطاقة” لكن في مشروعها “الأمني الطائفي”.
وقمّة الغباء الاستراتيجي التي وقع فيها الغرب وما زال حتى الآن هي أن يؤمن بأنّ الخطر الإيراني يكمن أساساً وحصريّاً في 3 مفاعلات للتخصيب داخل إيران ولا يكمن في “مشروع تفكير غيبيّ طائفي مسلّح مذهبي عنصري خارج عن القانون الدولي ولا يحترم فكرة الدولة الوطنية، ولا يؤمن إلا بنظام واحد وحيد للدولة هو دولة ولاية الوليّ الفقيه”.