تنذر التوقّعات التي ترجّح الشغور الرئاسي في لبنان، سواء نجحت الضغوط من أجل تأليف حكومة أم لا، بأنّ الأزمة السياسية في لبنان مرشّحة لأن تبلغ ذروة جديدة تحيي فكرة عقد “مؤتمر وطني” للخروج بتسوية سياسية جديدة ولو مؤقّتة على طريقة مؤتمر الدوحة في العام 2008، وذلك بعدما أظهرت الخلافات بين الفرقاء اللبنانيين تباعداً في التطلّعات والأهداف في مجالات عدّة، زادت من تقويض الاستقرار السياسي في البلد خلال العقدين الماضيين.
وبينما يربط معظم الوسط السياسي أيّ تسوية سياسية بين الفرقاء اللبنانيين بالمعادلة الإقليمية التي ستنجم عن محطات عدّة، منها مفاوضات فيينا وحدود النفوذ الإيراني في المنطقة، والمواجهة الغربية مع روسيا في الحرب التي تخوضها في أوكرانيا، وترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، وانعكاساتها على التموضع الإقليمي والدور العربي في البلد، فإنّ هذا الربط يترك لبنان عرضة لإطالة أزمته، ولا سيّما إطالة الفراغ الرئاسي المتوقّع، نظراً إلى انعكاسات أيّ اتفاق في فيينا أو فشله على حسابات “حزب الله” وسائر الفرقاء. ويأخذ الصراع الغربي الأميركي مع روسيا منحى تصاعديّاً منذ اندلاع الحرب في قلب أوروبا، ويتأرجح بين الحرب الباردة والحرب الاقتصادية الطويلة الأمد.
إنهاء الفراغ واستعادة إيران أرصدتها
بعض الوسط السياسي يعتقد أنّه ليس بالضرورة رهن اختيار رئيس الجمهورية الجديد برسوّ الإقليم على تفاهمات معينة، لأنّ البلد لا يحتمل فراغاً مديداً كالذي حصل قبل انتخاب الرئيس ميشال عون (سنتين وخمسة أشهر ونيّف)، بحكم عبء الأزمة الاقتصادية المالية على كلّ الفرقاء، بمن فيهم “حزب الله”. هذا الاعتقاد يعود إلى أنّه هو الأقدر على دفع الفرقاء إلى تبنّي المرشّح الأكثر ضمانة له، خصوصاً في حال التوصّل إلى اتفاق في فيينا يحرّر أرصدة طهران الماليّة، ويعزّز مكانتها في الإقليم. وتتساءل الأوساط الغربية منذ الآن عن كيفيّة إنفاق طهران الأموال التي ستحصل عليها في هذه الحال، وهل تعيد تزويد أدواتها، ولا سيّما حزب الله، بالمال، كما كانت تفعل قبل أزمتها الماليّة جرّاء العقوبات؟ ويسأل البعض: هل تعزّز طهران دور الحزب عبر إرسال المزيد من المساعدات والهبات إلى البلد، لمنافسة الدول الغربية والمانحة، التي تقتصر مساعداتها راهناً على النواحي الإنسانية والاجتماعية، في انتظار الإصلاحات الموعودة؟
معضلة أيّ رئيس… وتعديلات باسيل للطائف
لكنّ أيّ رئيس جديد سيواجه عوامل الأزمة نفسها بعناوينها المعقّدة، وسيصعب الخروج من الكارثة الاقتصادية الماليّة إذا لم يُصار إلى حوار بين الفرقاء اللبنانيين. والمنحى الذي ستسلكه الأمور هو الذي سيحدّد ما إذا كان الحوار المُزمع سيسبق الانتخابات الرئاسية ويقود إليها، أم أنه سيأتي بعد إنتخاب رئيس.
إنّ جدول أعمال أيّ مؤتمر من هذا النوع تشير إليه عناوين الخلافات اللبنانية الكبرى، من قضيّة سلاح “حزب الله”، وهيمنته على القرار السياسي بحكم فائض القوّة، وتطبيق القرارات الدولية في شأن السلاح، إلى تعديل النظام عبر تعديل الدستور بحجّة استعادة المسيحيين حقوقهم والتي يعتقد “التيار الوطني الحر” أنّ اتفااق الطائف حرمهم منها. وهذا إضافة إلى عناوين أخرى من نوع الخلاف على ما إذا كانت اللامركزية الموسّعة إدارية تشمل الشؤون الماليّة، وصولاً إلى هويّة لبنان وعلاقاته العربية، وعنوان “الحياد الناشط” الذي طرحه البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي أو النأي بالنفس عن صراعات المنطقة.
بات معروفاً أنّ هناك توجّهاً لدى الفريق الرئاسي الحالي نحو توفير ظروف للدعوة إلى دوحة ثانية. وهو هيّأ لمشروع تعديل للدستور، أعلنه رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل أكثر من مرّة، وفيه ما يقلّص صلاحيّات رئيس الحكومة لمصلحة رئاسة الجمهورية، وذلك من خلال النصّ على مهلة للرئيس المكلّف لتشكيل الحكومة ، بموازاة مهلة لرئيس الجمهورية للدعوة إلى الاستشارات النيابية لتسمية رئيس الحكومة، واقتراح انتخاب الرئيس على مرحلتين ومباشرة من الشعب، الأولى من قبل المسيحيين والثانية على المستوى الوطني، فضلاً عن تحديد مهل للوزراء للتوقيع على المراسيم، أسوة برئيس الجمهورية… ومناقشة الاستراتيجية الدفاعية لاستيعاب سلاح “حزب الله”.
بعض الوسط السياسي يعتقد أنّه ليس بالضرورة رهن اختيار رئيس الجمهورية الجديد برسوّ الإقليم على تفاهمات معينة، لأنّ البلد لا يحتمل فراغاً مديداً كالذي حصل قبل انتخاب الرئيس ميشال عون
صيغة الدوحة أم الرعاية الدوليّة؟
يختلف فرقاء رئيسيون على “مفهوم المؤتمر الوطني” الذي طُرحت فكرته مرّات عدّة في السنوات الماضية. وبالإضافة إلى رغبة الفريق العوني بصيغة الدوحة، فإنّ مصادر سياسية مسيحية تشير إلى أنّ دعوات البطريرك الراعي إلى مؤتمر من هذا النوع بحضور الدول المعنيّة بلبنان على المستويَيْن الدولي والإقليمي، انتقلت إلى عواصم القرار من خلال اتّصالات بدأها الفاتيكان، وهي ما زالت مدار تشاور بين العواصم، ومن بين حجج التريّث في شأنها ضمان قبول الفرقاء اللبنانيين بها.
وكان فشل المبادرة الفرنسية، التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الأوّل من أيلول 2020 إثر انفجار مرفأ بيروت، قد دفع باريس إلى تدارس اقتراح دعوة الفرقاء اللبنانيين إلى الاجتماع في العاصمة الفرنسية، لكنّه بقي معلّقاً لمصلحة أولويّة الإنقاذ الاقتصادي وانتظار الاستحقاقات الدستورية، وتوسيع المشاورات الدولية والإقليمية في شأنها.
ورجّحت المصادر السياسية المسيحية رفض اقتراح مؤتمر وطني على طراز مؤتمر الدوحة، لأنه سيكون في مصلحة “حزب الله” وحلفائه، وسيكرّس نفوذ الأخير ويشرِّعه، مشدّدة على اشتراط البطريركية المارونية رعايةً وحضوراً دوليَّيْن وإقليميَّيْن، بهدف طرح حياد لبنان. إلا أنّ هذا يفترض حضوراً إيرانياً للمؤتمر، فهل دول الخليج، ولا سيّما السعودية، مستعدّة لبحث أزمة لبنان في حضور إيران، بينما لم تنقشع بعد صورة العلاقة بينها وبين الأخيرة، وتتّهمها بالتدخّل في لبنان والعراق واليمن وسوريا؟
أفكار فرنسيّة يقابلها تمسّك عربيّ بالطائف
فضلاً عن هذه الإشكالية، تشير أوساط متابعة للحراك الدولي في شأن لبنان إلى أنّ الجانب الفرنسي فاتح مسؤولين عرباً بعقد هذا المؤتمر لمعالجة مسألة سلاح الحزب عبر تقديم مقابل للطائفة الشيعية يعزّز شراكتها في السلطة التنفيذية، (وهو ما يُصطلح على تسميته في بيروت بـ”التوقيع الرابع” على القرارات والمراسيم عبر وزارة المال التي بقيت بيد الشيعة في الحكومات الأخيرة)، لكنّ هذه الدول أصرّت في شكل حاسم على الحفاظ على اتفاق الطائف. فهي تولي أهميّة لإعادة التوازن إلى الحكم اللبناني عبر تطبيق الطائف. ومن هنا تأكيد البيان السعودي الفرنسي، بُعَيد اجتماع الرئيس ماكرون إلى وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في جدّة في 4 كانون الثاني 2021، على “الالتزام باتفاق الطائف المؤتمن على الوحدة الوطنية والسلم الأهليّ في لبنان”. ثمّ كانت المبادرة الكويتية في 22-01-2022، التي صيغت بتفاهم مع الرياض، ونصّت على “التزام لبنان بكافّة استحقاقات مؤتمر الطائف”، في البند الأول من بنودها الـ12، وهو ما ردّدته كلّ البيانات الخليجية.
وعلى الرغم من تأكيد الأمين العام لـ”حزب الله” قبل أشهر، ومن ثم تكرار رئيس البرلمان نبيه برّي التزام بنود اتفاق الطائف، وآخرها أمس في كلمته في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه في صور، فإنّ اللغط حول السعي إلى المثالثة المسيحية السنّية الشيعية بدل المناصفة بين المسلمين والمسيحيين ما زال يتردّد بين الحين والآخر بهدف تعديل الصيغة اللبنانية التي يصرّ عليها المسيحيون.
آخر المعلومات الدبلوماسية تؤكد أنّ السعودية أبلغت الإدارتين الفرنسية والأميركية بأنه من غير الوارد تحت أي ظرف من الظروف الدخول في مفاوضات حول تعديل الطائف وأنّ المقعد السنّي على الطاولة سيكون شاغراً، أو سيكون خائناً أيّاً كان المشارك وأيّاً كانت صفته.
إقرأ أيضاً: باسيل توعّد بـ”مشكل كبير بالبلد”.. كيف يردّ السُنّة؟
أفكار إيرانيّة بموازاة لوبي لأجل الفيدراليّة
في هذا السياق تذكر دوائر ضيّقة واقعةً جرت بين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وبين كمال خرازي رئيس المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية الإيرانية، حين التقاه في “منتدى الدوحة” أواخر شهر آذار الماضي، إذ حدّث الأخير ميقاتي عن أهميّة الانتباه إلى “حقوق الشيعة” في لبنان، لكنّه لم يوضح ما المقصود بتلك العبارة.
ولا تقف إشكاليّات انعقاد مؤتمر كهذا عند هذه الحدود. فمعطيات بعض الجهات المسيحية تفيد بأنّ لوبياً لبنانيّاً يتحرّك في عواصم القرار، ولا سيّما في الولايات المتحدة الأميركية، ويعمل على استباق أيّ تعديل في اتفاق الطائف ينتقص من دور ووزن المسيحيين في تقاسم السلطة، ويسعى إلى تسويق الأفكار الفيدرالية في مقابل إدخال تعديلات على الدستور تضرّ، وفق رأي بعض الأفرقاء المسيحيين، بمصالحهم في التركيبة اللبنانية.