أبعد من الحرب على أوكرانيا

مدة القراءة 5 د

لماذا تنفق الولايات المتحدة المليارات من الدولارات لدعم أوكرانيا في مواجهة القوات الروسية؟ ولماذا تعرّض الاقتصاد الأميركي الذي لم يتعافَ من مضاعفات وباء كوفيد 19 لمزيد من المتاعب فيما تُغرَق أوكرانيا بالمساعدات العسكرية والماليّة (والسياسية) لتمكينها من الصمود في وجه القوّات الروسية؟

صحيح أنّ الحرب دمّرت العديد من المدن الأوكرانية، وشلّت اقتصادها، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ هذه الحرب تحوّلت أو كادت تتحوّل إلى حرب استنزاف لروسيا عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.

خرجت روسيا من الحرب الباردة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ضعيفة ومنهكة. حتى إنّ سائق الشاحنة في عام 1994 كان يتقاضى تعويضاً أكثر ممّا يتقاضاه قائد طائرة مقاتلة. انتشرت المجاعة في صفوف القوات السوفياتية، حتى إنّ الجنود تلقّوا تعليمات بمغادرة ثكناتهم والتوجّه إلى الغابات لقطف ثمار الفطر.

أهمّ تطوير وتحديث في الترسانة العسكرية الروسية كان في قطاع الصواريخ. وبذلك أصبحت كلّ القارّة الأوروبية من بولندة حتى بريطانيا، تحت رحمة هذه الشبكة من الصواريخ التي تحمل رؤوساً نوويّة

ولكنّ هذا الوضع الانهياريّ لم يستمرّ طويلاً. فقد تضاعفت الموازنة العسكرية بين عامَيْ 2005 و2018، ووصلت الآن إلى حوالي 180 مليار دولار، أي ثلاث مرّات أكثر من موازنة التسلّح البريطانية. وأُنفق معظم الموازنة على الإنتاج الحربي، فصُنِّعت:

– 600 طائرة عسكرية جديدة ومتطوّرة.

– 840 طائرة هليكوبتر.

– 2,300 طائرة مسيّرة.

غير أنّ أهمّ تطوير وتحديث في الترسانة العسكرية الروسية كان في قطاع الصواريخ (المتوسّطة والبعيدة المدى) مثل صواريخ الإسكندر التي تُطلَق من البرّ، وصواريخ كاليبر التي تُطلَق من البحر، وصواريخ ك.هـ. التي تُطلَق من الجوّ. وبذلك أصبحت كلّ القارّة الأوروبية من بولندة حتى بريطانيا، تحت رحمة هذه الشبكة من الصواريخ التي تحمل رؤوساً نوويّة.

إضافة إلى هذه القوّة العسكرية، طوّرت روسيا أجهزتها الإلكترونية لمراقبة كلّ حركة عسكرية معادية عبر الفضاء. وتتجمّع لدى القيادة العسكرية الصور عن حركات العدوّ (في أيّ مكان من الكرة الأرضية) في جهاز معلومات مرتبط بأجهزة إلكترونية لإطلاق الصواريخ، بما فيها تلك المحمّلة برؤوس نووية، نحو الأهداف المختارة.

تقول معلومات حلف شمال الأطلسي إنّ بإمكان روسيا اليوم إرسال مئة ألف جندي فوراً وبسلاحهم الثقيل إلى أيّ بقعة في أوروبا في غضون أيام. وتقول هذه المعلومات أيضاً إنّ دول الحلف تحتاج إلى ضعفَيْ هذا الوقت لتحريك نصف هذا العدد من القوات.

أمّا الاستعدادات الجويّة العسكرية فإنّ أكثر من خمسة آلاف طيّار عسكري روسي يمكن خلال ساعتين فقط إعدادهم للدخول في أيّ معركة.

طوّرت روسيا أيضاً سلاحها الإلكتروني الذي يشوّش على أجهزة العدوّ في الأرض وفي الفضاء. وجرت تجربة هذه الأجهزة الجديدة في سوريا إلى حدّ أنّها كانت تؤثّر حتى على حركة الطيران المدني في إسرائيل. وكانت الحرب في سوريا ميداناً لاختبار العديد من الأسلحة الروسية الحديثة ولتدريب الجنود الروس على استخدامها في العمليات القتالية – الميدانية.

هذه النقلة التجهيزيّة والتطويرية العسكرية ممّا كانت عليه روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى ما هي عليه الآن، هي ما تحاول الولايات المتحدة استكشاف مدى فعّاليّتها، ومحاولة استنزافها في الحرب الأوكرانية.

ما حدث ويحدث في أوكرانيا على فظاعته، قد لا يكون أكثر من قطرات.. قبل أن ينهمر المطر

كان هدف روسيا من الحرب في أوكرانيا وقف تمدّد حلف شمال الأطلسي شرقاً. غير أنّ أوكرانيا طرحت الحرب من زاوية معاكسة. فهي تقول: لو أنّ أوكرانيا كانت عضواً في الحلف الأطلسي ما كانت روسيا لتشنّ الحرب عليها. هذا المنطق الأوكراني – الأميركي وجد طريقه إلى الدول الأوروبية المجاورة لروسيا، وخاصة إلى الدول الإسكندينافية. فكانت فنلندة أوّل دولة تعلن نيّتها الانضمام إلى الحلف، وتلتها السويد.

كانت أوكرانيا في الجنوب وفنلندة في الشمال تشكّلان حاجزاً محايداً بين روسيا والحلف الأطلسي. أمّا الآن وبانضمام الدولتين (بعد النرويج والدانمرك) إلى الحلف، فإنّ هذا الحاجز يكون قد سقط، وبسقوطه أصبح الحلف يحيط بروسيا من الجهة الغربية: من القطب شمالاً حتى البحر الأسود جنوباً.

وفي الوقت ذاته فإنّ حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأقصى، وخاصة كوريا الجنوبية واليابان، يشكّلون الطرف الآخر من فكّيْ الكمّاشة الأطلسية التي تحيط بروسيا، بحيث لا يبقى أمامها من خيار استراتيجي سوى التفاهم والتحالف مع الصين.. ومع كوريا الشمالية.

تطرح هذه المتغيّرات التي انطلقت من الجبهة في أوكرانيا معادلات سياسية – عسكرية جديدة تُملي الحاجة إلى نظام عالمي جديد قبل فوات الأوان! إلّا أنّ التوصّل إلى مثل هذا “النظام” قد يكلّف الإنسانيّة دماء ودماراً لا قدرة لها على تحمّلهما، خاصة إذا ما اضطرّ طرف أو أكثر من أطراف المعادلة الجديدة إلى استخدام السلاح النووي.

مرّت الإنسانية بتجربتين نوويّتين. كانت التجربة الأولى عسكرية مسرحها اليابان (ناكازاكي وهيروشيما)، وبطلها الولايات المتحدة. أمّا التجربة الثانية فكانت مدنيّة ومسرحها أوكرانيا (انفجار مفاعل تشيرنوبيل). ودفعت الإنسانية ثمن التجربتين ما لم تحسب له أكثر العقول معرفةً بعواقب هذا السلاح التدميري الرهيب. وفيما ترتفع أصوات العقلاء للعمل على مواجهة أخطار التغيُّر المناخي بخفض مستوى الحرارة إلى درجة واحدة على الأقلّ من خلال ضبط انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، تتحرّك الأصابع نحو الزناد النووي بما يهدّد الحياة أو بقيّة الحياة على الكرة الأرضية.

إقرأ أيضاً: البعد الدينيّ للحرب في أوكرانيا

لقد توقّف العمل بمعاهدة المراقبة المفتوحة المتبادلة بين موسكو وواشنطن لمواقع انتشار قواعدهما النووية من الجوّ، وأصبح ارتكاب الأخطاء أكثر احتمالاً وأشدّ خطراً. ذلك أنّه بانعدام الثقة وبارتفاع حدّة العداء بعد حرب أوكرانيا، فإنّ الأخطاء تتراكم والأخطار تصبح أكثر واقعية.

وما حدث ويحدث في أوكرانيا على فظاعته، قد لا يكون أكثر من قطرات.. قبل أن ينهمر المطر.

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…