العقل السياسي العربي للحاكم والمحكوم يبني مواقفه النهائية على العناصر الشخصية قبل العناصر الموضوعية!
تؤدّي هذه المأساة إلى أن يتّخذ الحاكم قرارات سيّئة، وإلى دمار وتشويه قرار التصويت الانتخابي للمحكوم على كلّ المستويات ابتداء من اختيار العمدة (المختار) إلى البرلمان، وصولاً إلى رئيس الجمهورية.
الأهمّ من القرار في أيّ زمان ومكان وفي أيّ مسألة شخصية أو ماليّة أو سياسية هي “العناصر الموضوعية” القائمة على وقائع مجزّأة وأسس علمية صحيحة.
في الفهم السياسيّ للأمور يقول “ميترنيخ” إنّ السياسة لا تعرف الحبّ أو الكراهية ولا تعرف العداء الدائم أو التحالف الدائم، لكنّها تقوم أساساً على خدمة المصالح العامّة
وبدون أيّ فلسفة أو تنظير نقول إنّ “الموضوعية” تعني التجرّد الكامل من الشخصانيّة عند فهم الأحداث والقضايا وتقديرها.
في لبنان الآن تدور معركة محمومة للانتخابات النيابية حيث ما زالت عناصر الطائفة والمذهب والطبقة والمنطقة والعائلة والحزبيّة الضيّقة هي العامل الرئيسي المؤثّر على خيار الناخب.
منذ 2018 يلعن الجميع الأوضاع والطبقة السياسية، ثمّ نرى عمليّة تسويق هائلة للشخصيّات الملعونة ذاتها!
ما زال الأمل صغيراً خجولاً في أن تستطيع مجموعات من المجتمع المدني الحصول على حدّ أدنى من 6 مقاعد إلى عشرة في أقصى تقدير، من مجموع 128 مقعداً نيابيّاً.
التصويت الاحتجاجي حقّ مكفول، لكنّه لا يعني أنّه التصويت الأفضل.
التصويت الاحتجاجي
في مصر انقلب 7 ملايين صوّتوا لمرشّحين آخرين في المرحلة الأولى فصوّتوا لمرشّح جماعة الإخوان الدكتور محمد مرسي ليحصل على قرابة 13 مليون صوت في المرحلة الثانية. في المرحلة الأولى حصل على قرابة خمسة ملايين صوت فقط.
هذا يعني أنّ الرجل حصل في المرحلة الثانية على نحو 150 في المئة من كتلته المخلصة. ذلك كلّه احتجاجاً على مرشّح النظام القديم الفريق أحمد شفيق.
في فرنسا ذاتها على مدار انتخابَيْن رئاسيَّيْن فاز إيمانويل ماكرون بفضل التصويت الاحتجاجيّ لمنع السيدة مارين لوبان، اليمينية المتشدّدة، من الفوز. على الرغم من إخفاقات الرجل في تحسين أوضاع شعبه أو تحقيق وعوده الانتخابية في الانتخابات الرئاسية الأولى.
وصل الحدّ بالمعلّقين السياسيّين الفرنسيين إلى القول إنّ السيدة “لوبان” هي هدية “بابا نويل” السياسيّة لماكرون لأنّها في كلّ مرّة توفّر له الفوز عبر الصوت الاحتجاجي.
في تونس ذهب المزاج التونسي عقب رحيل الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي إلى اختيار تيّار حزب النهضة الذي بيّنت التجربة العملية أنّه كان اختياراً كارثيّاً. وشعر معظم مَن دعموه أنّهم ارتكبوا خطيئة سياسية قائمة على مزيج من الجهل والعواطف والغضب.
المصالح العامة؟
في الفهم السياسيّ للأمور يقول “ميترنيخ” إنّ السياسة لا تعرف الحبّ أو الكراهية ولا تعرف العداء الدائم أو التحالف الدائم، لكنّها تقوم أساساً على خدمة المصالح العامّة.
والمصالح العامّة في اللغة وفي التطبيق الحرفيّ العملي هي المضادّ الكامل للمصالح الشخصية الضيّقة.
تُبنى المصالح الشخصية على التفضيل أو العداء الشخصي أو المصالح الذاتية المرتبطة بالفساد والتربّح السياسي من المنصب والصفقات المشبوهة.
في عالمنا العربي لاحظ الآتي:
1- حجم المسؤولين الذين حصلوا على مناصبهم عبر الشراء الماليّ لذمم مَن اختارهم وثبّتهم في هذه المناصب.
2- حجم المشروعات الحكومية التي تمّ اعتمادها بناءً على خدمتها لمصالح النخبة الحاكمة على الرغم من إضرارها الشديد بمصالح البلاد والعباد.
3- حجم تأثير علاقات العمولات والسمسرة والمحاصصة في نهب وتجريف المال العامّ لمصلحة مَن في السلطة.
4- حجم العلاقات الحديديّة الفولاذية بين أقطاب السلطة وشركائهم الفاسدين في القطاع الخاص من أصحاب رؤوس الأموال الذين بنوا ثرواتهم الضخمة على شراء ذمم السلطات الحاكمة.
التقديس والشيطنة
الشخصانية تقتل الموضوعية، لذلك نعيش حالات “التقديس” للذات أو الأصدقاء مقابل حالات شيطنة الخصوم والأعداء.
لا يتركّز التقييم في هذه الحالة على “ماذا فعلت؟”، بل على تصنيف: هل أنت “عدوّ؟” أم “صديق”؟
لذلك نمتدح الصديق إذا ارتكب كارثة الكوارث ونطعن العدوّ إذا حقّق أعلى معدّلات الإنجاز والتقدّم.
في الآونة الأخيرة ظهر “العقل التحريضي” المسكون بالعقلية التآمريّة، الرافض تماماً لتفهّم الآخر أو اللجوء إلى وسائل البحث العلمي والتحليل النقدي الموضوعي.
العقل التحريضي هو عقل يسير في “مسار إجباري” للتفكير ليس له سوى اتجاه واحد!
العقل التحريضيّ هو عقل تآمريّ بالضرورة لأنّ ذلك يعطيه “رخصة عقلية ونفسية وأخلاقية” بالاغتيال المعنوي للآخر من دون الشعور بأدنى حدّ من الذنب.
العقل التحريضي هو الذي جعل جماعة الإخوان المسلمين تؤمن بأنّها “جماعة المسلمين” وليست “جماعة من المسلمين”.
العقل التحريضي هو الذي يؤمن بأنّ لبنان العربي المشرقي يجب أن يكون جزءاً من مشروع ولاية الفقيه الطائفية الفارسية.
العقل التحريضي هو الذي يؤمن بأنّ الرئيس الأميركي كائناً من كان يستيقظ كلّ صباح ويجتمع بمساعديه في البيت الأبيض ليبحث معهم أحوال فخامة فلان أو سموّ فلان أو أحوال فلان “بك” أو نشاط “السيّد” فلان في العالم العربي والمنطقة!
العقل التحريضي يعيش على الخيال السياسي المزوِّر والأوهام والضلالات من منطلق “الحقيقة هي كما أريد” وليست كما هي في الواقع!
في لبنان الآن تدور معركة محمومة للانتخابات النيابية حيث ما زالت عناصر الطائفة والمذهب والطبقة والمنطقة والعائلة والحزبيّة الضيّقة هي العامل الرئيسي المؤثّر على خيار الناخب
رئيس دولة الإمارات
هذا العقل التآمريّ لا يفهم مثلاً كيفيّة صناعة القرار وعملية انتقال السلطة عندما يخلو منصب رئيس دولة اتحاد الإمارات العربية.
منذ تأسيس حكّام الإمارات السبع لهذه الدولة عام 1971 كان هناك نظام أساسيّ ودستور، وهناك أيضاً عُرف سياسي يتمّ احترامه حرفيّاً.
بعد فقدان الإمارات لمؤسّسها الشيخ زايد آل نهيان انتقل الحكم بسلاسة إلى أكبر أبنائه الشيخ خليفة (1948- 2022)، وتمّ ذلك عبر اجتماع مجلس لدولة الاتحاد، وهو مجلس يجتمع حسب النظام أربع مرّات سنوياً ويقتصر الحضور فيه على حكّام الإمارات السبع.
بحكم النظام، عند خلوّ منصب الرئيس، يكون على المجلس الأعلى أن يجتمع في فترة لا تزيد على 30 يوماً.
والعرف السياسي أنّ حاكم إمارة أبوظبي، وهي الإمارة التي بدأت فيها فكرة الاتحاد والأكثر تعدّداً وثروةً وفيها العاصمة ومركز الحكم، هو الذي يتولّى قيادة الاتحاد.
مع ذلك كلّه، ومع ما هو منشور ومعروف ومتداوَل ومفهوم، يصرّ البعض على الاصطياد في الماء العكر وتقديم تفسيرات مريضة وتحريضية ومغلوطة حول انتقال السلطات في الدولة.
يحدث الشيء ذاته مع السعوديّة ومع مصر ومع الأردن ومع تونس ومع السودان والجزائر.
بالله عليكم كيف يمكن لأمّة تسعى إلى النهوض والإصلاح والمشاركة الفعّالة في النظام العالمي الجديد الذي يتشكّل بصعوبة شديدة أن تفعل ذلك وهي تدير قراراتها من منظور شخصاني تآمري، تحريضي، مضادّ للعقل والمنطق والتاريخ؟
هذا العقل إمّا أن يصنع “المهمّة” من البشر عبر تزوير الواقع أو يصنع شياطين من الخصوم عبر اغتيالهم معنويّاً!
إقرأ أيضاَ: وهل يهمّ ضعف الجيوش أو قوّتها؟
الاغتيال المعنوي يمكن فهمه بشكل شفويّ بسيط حينما نتأمّل كلمات أغنية المهرجانات المصرية “خطر” للمطرب “جودة بندق” (هذا اسمه والله) حينما يقول: يا اللي سيرتي تعباك.. قلبك إسود.. “بلاك”!
* أغنية شعبية