هكذا بنت إيران “ضواحي جنوبية” للمدن السورية

مدة القراءة 7 د

في نهاية كانون الأول 2016 خرج نجم الدين بكور (39 عاماً) من منزله في حيّ الفردوس بمدينة حلب بعدما سيطر النظام السوري على كامل المدينة بدعم عسكري روسي وإيراني، إثر عملية عسكرية واسعة تسبّبت في مقتل وجرح الآلاف من المدنيين، ودمار معظم الأحياء الشرقية من المدينة، وتهجير أغلب سكّانها نحو الريف الغربي، ضمن اتفاق دولي شهد انتقادات واسعة.

عاش الرجل في منزل أحلامه مع عائلته المكوّنة من خمسة أشخاص لأكثر من 15 عاماً، وعمل مدرّساً في الحيّ الذي نشأ فيه. إلا أنّ مساعي إيران المتواصلة لإحداث تغييرات ديموغرافية تخدم طموحاتها في البلد الذي تمزّقه الحرب حوّلت منزله إلى ركام.

بعد تهجير سكان مدينة داريا نفّذت إيران والنظام السوري عمليات تهجير ممنهجة في مدينة حلب شمال البلاد وفي القلمون والغوطة الشرقية قرب العاصمة دمشق، وقبلها في مدينة حمص وسط البلاد

علم الرجل بهدم منزله من جيرانه في الحيّ، ونفى إخطاره مع الملّاك الآخرين في البناء ذاته بإمكان حصولهم على تعويضات لقاء خسارتهم.

لا يخفي نجم الدين حزنه على منزله الذي تمّ هدمه بشكل كامل، ويقول: “إيران والنظام السوري هدما آلاف المنازل، ومن بينها منزلي في حلب، ولديهما خطط معدّة سابقاً لكلّ الأحياء التي ثارت ضدّ نظام الأسد تقوم على هدم منازل المعارضين وإعادة هندسة المنطقة، ولذلك عمل نظام الأسد على إصدار ترسانة من القوانين التي تسهّل الاستيلاء والهدم ومنع السكان من العودة إلى منازلهم”.

2012 – 2022: داريا… حلب

بدأ المخطّط منذ أواخر العام 2012، بعدما توسّعت موجات الهجرة والتهجير القسري. إذ فرضت قوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية حصاراً خانقاً على مدينة داريا التي تقع على بعد نحو عشرة كيلومترات من وسط العاصمة السوريّة دمشق. دام الحصار وقتذاك لأكثر من أربعة أعوام قُصفت خلاله المدينة بآلاف القذائف المدفعيّة والبراميل المتفجّرة والألغام البحرية والقنابل الفراغيّة، وانتهى بتهجير سكّان المدينة.

بينما كانت حافلات التهجير تتجهّز لنقل السكان من مدينتهم، كان رئيس النظام السوري بشار الأسد يلقي خطاباً ختمه بالقول إنّ “الوطن ليس لِمن يسكن فيه وليس لِمن يحمل جواز سفره أو جنسيّته، الوطن لِمن يدافع عنه ويحميه”. حينذاك تحدّث الأسد في كلمة ألقاها في قصر الشعب وبثّها التلفزيون السوري مباشرة، علناً للمرّة الأولى، عن الدعم العسكري الإيراني، وأشاد علناً للمرّة الأولى أيضاً بحزب الله لدوره المهمّ والفعّال.

 بعد تهجير سكان مدينة داريا نفّذت إيران والنظام السوري عمليات تهجير ممنهجة في مدينة حلب شمال البلاد وفي القلمون والغوطة الشرقية قرب العاصمة دمشق، وقبلها في مدينة حمص وسط البلاد.

خلال عملية الحصار، التي بدأها النظام السوري وإيران منذ اندلاع الاحتجاجات السلمية في آذار عام 2011، للمناطق المدنية المأهولة بالسكان، كان سلاح التجويع وسيلة من وسائل الحرب. إذ منعت إيران والنظام السوري، أو قيّدت تعسّفيّاً، إمكانية الحصول على الضروريّات الأساسية، بما في ذلك الغذاء والماء والدواء والكهرباء والوقود والاتصالات. ومنعا أيضاً منظّمات الإغاثة من دخول المناطق المحاصَرة.

 

حديث الصورة: عمليات تهجير ممنهجة للمدنيّين قادها النظام السوري وإيران في الغوطة الشرقية بريف دمشق بعد تدميرهما لها ومحاصرة المدنيين بصورة غير مشروعة وحرمانهم من الغذاء والدواء وغيرهما من الضروريات الأساسية، وتنفيذ هجمات غير مشروعة على مناطق سكنيّة.

لم يكن للأشخاص الذين تعرّضوا لتلك الانتهاكات وقتذاك من خيارٍ سوى مغادرة مدنهم وترك منازلهم جماعيّاً في ما عُرِف بـ”التهجير الجماعي”. نتيجة لذلك يعيش اليوم آلاف ملايين السوريين في مخيّمات مؤقّتة، ولا يُتاحُ لهم إلا إمكانية الحصول على معونة وبعض الضروريات الأساسية، فيما فرص كسب الرزق المتاحة ضئيلة.

وصفت منظمة العفو الدولية تلك العمليات، التي نفّذها النظام السوري وإيران ويستمرّان بتنفيذها حتّى اليوم، بـ”جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية” وفق استراتيجية شعارها “موتوا جوعاً أو استسلموا لنا”، عقب تدمير مناطق عدّة كانت تسيطر عليها المعارضة السورية المسلّحة.

القانون 10

في 2018 بدأ “تشريع” هذا التغيير الديمغرافي، من خلال القوانين والتشريعات، استباقاً للسلام الذي بدا كأنّه يقترب مع هزيمة الثورة السورية والتنظيمات التي أنبتتها.

في هذا العام أجاز “القانون رقم 10” اقتطاع ملكيّات خاصة من أجل المنفعة العامّة من دون تعويض ماليّ، وهو ما جاء في المادة 11/21، على أن “يقتطع مجّاناً وفق المخطط التنظيمي العام والمخطط التفصيلي جميع الأراضي اللازمة لإنجاز وتنفيذ طرق وساحات وحدائق دون بدل أو تعويض”، وهذا يخالف المادة 15 من الدستور السوري، التي تنصّ على أن “لا تنزع الملكية الفردية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل وفقاً للقانون”.

يعتقد أيمن محمد، الباحث في الشأن الإيراني، في اتصال مع “أساس”، أنّ “عمليات الهدم تهدف إلى الاستيلاء على الممتلكات بمساندة القوانين، وتستخدم إيران سلطتها الدينية وعلاقتها بالنظام السوري بقيادة حليفها بشار الأسد، لإحداث تغييرات في البنية السكانية، ولا سيّما في العاصمة دمشق وحلب وحمص، وتنسّق مع رجال أعمال إيرانيين من أجل إحداث التغييرات الديموغرافية التي تتطلّع إليها”.

في السنوات الأربع الماضية، أعلن النظام السوري ما يقرب من ألف عملية هدمٍ في أنحاء سوريا، تمتدُّ من درعا في الجنوب إلى حلب في الشمال. وبرّر بشكل روتيني هذه العمليات ليس “بالقانون رقم 10” وحسب، بل استحدث ما يُسمّى “إزالة العبوات الناسفة التي خلّفتها الجماعات الإرهابية”، فيما الهدف الحقيقي هو إحداث التغيير الديموغرافي. وتُظهِر صور الأقمار الصناعية ومقاطع الفيديو أنّ المزيد من عمليات الهدم قد نُفِّذَت.

 

حديث الصورة: عاشت الأحياء الشرقية من مدينة حلب حصاراً خانقاً فرضته عليها قوات النظام وروسيا والميليشيات المدعومة من إيران و”وحدات حماية الشعب”، واستمرّ الحصار نحو أربعة أشهر عانى فيها أهالي المدينة فقدان الأغذية والأطعمة والأدوية وحليب الأطفال، بالإضافة إلى ندرة مياه الشرب والوقود وانقطاع الكهرباء.

سبقت هذا القانون عدّة قوانين أبرزها المرسوم رقم 66 الصادر عام 2018 الذي يسمح للنظام باستثمار غياب السوريين وفقدان أوراق ملكيّاتهم والاستحواذ على أملاكهم بطرق تُعتبر تعسّفية وغير قانونية وفقاً لهيئات قانونية محلّية ودولية.

تقول سارة كيالي، الباحثة في الشؤون السورية في منظمة “هيومن رايتس ووتش”، إنّ عمليات الهدم يحتمل أن تكون جرائم حرب، لأنّه لم يكن هناك عمل عدائي نشط أو هدف عسكري في المنطقة بعد استعادتها.

ضواحي جنوبية

يوافق المهندس حميد إبراهيم، الذي عمل سابقاً في وزارة الإدارة المحلية قبل مغادرته البلاد في صيف 2011، على أنّ السبب الأبرز للهدم في معظم المدن السورية، وخاصة في ضواحي العاصمة دمشق، هو إحداث التغيير الديموغرافي، إذ تهدم إيران عبر وكلاء محلّيين ورجال أعمال مقرّبين منها الأحياء التي كانت تسيطر عليها المعارضة المسلّحة في دمشق، حلب، دير الزور، وحمص تحت ستار إزالة الأنقاض أو العبوات الناسفة.

ويضيف إبراهيم في حديث مع “أساس” أنّ إيران تستولي على المناطق التي نزح عنها سكَّانها بسبب القتال وأصبحوا لاجئين في الخارج، من خلال عقود استثمار يقدّمها لها النظام السوري.

إقرأ أيضاً: هل يلحق مرفأ اللاذقية.. بمرفأ بيروت؟

ويضيف: “تحقّق إيران هدفها المتمثّل في إنشاء مناطق مشابهة للضاحية الجنوبية لبيروت في كلّ من مدن دمشق وحمص وحلب ودير الزور ودرعا، من خلال هدم منازل المدنيين في المناطق المعارضة والاستيلاء عليها”.

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…