زمن الاتحاد السوفياتي كانت جمهوريّتا أوكرانيا وروسيا من أكثر الجمهوريات استقبالاً للطلبة الفلسطينيين والعرب، الذين كانوا يتلقّون تعليمهم الجامعي مجّاناً، وكان البلدان المتّحدان في دولة واحدة يستقبلان المرضى الفلسطينيين والعرب ليتلقّوا علاجاً فعّالاً ومجّانيّاً أيضاً، خصوصاً في مجال طبّ العيون والعظام.
أمّا منتجعاتهما النموذجية فكانت تعجّ بالرفاق الحلفاء من مختلف البلدان، ولأنّ الطلاب الفلسطينيين والعرب الذين ينتمون إلى طبقة لا تستطيع تعليم أبنائها في جامعات الغرب ولا حتى في الجامعات العربية، فأوّل مشروع يفكّرون فيه أثناء حياتهم الجامعية هو أن يجنّبوا أنفسهم الزلل والحرام، وذلك بالزواج من الزميلات الروسيّات والأوكرانيّات، فنتج تصاهرٌ بعضه الكثير دام حتى بعد العودة إلى الوطن، وأحياناً أو غالباً ارتفاعٌ في مستوى الدخل لأنّ كلّ الزوجات مؤهّلات.
يشعر الفلسطينيون خصوصاً بخذلان العالم لهم حين لم يستطع فعل شيء إزاء احتلال إسرائيل بلادهم. وهو أفظع أنواع الاحتلالات التي عرفتها البشرية وأطولها
لمّا انهار الاتحاد السوفياتي وصارت أوكرانيا دولة مستقلّة لم يتوقّف التوجّه التعليمي والعلاجي والتجاري والسياحي نحو الدولة الجديدة وجارتها الدولة الروسية، فتواصلت العلاقات القديمة وتواصل التصاهر والإنجاب، وكثير من الفلسطينيين والعرب حصلوا على جنسيّات كاملة في البلدين الجارين. ولقد استفادوا من إتّقانهم للّغة بتأسيس مصادر رزق لهم حيث الاقتصاد الناشئ يوفّر فرصاً.
المزاج الفلسطيني، وربّما العربي، في الحرب الراهنة لم يستقرّ على تأييد هذا الطرف أو ذاك. فكلّ كارهي أميركا يتمنّون لها الهزيمة والانكسار لأسباب فلسطينية إسرائيلية. وللأسباب نفسها يكرهون الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، لأنّه بالغ في إظهار ولائه لإسرائيل كما لو أنّه مندوب للّيكود في كييف. أمّا الذين يكرهون بشار الأسد وإيران فيسحبون كراهيتهم على سياسة حليفهما الروسي.
المزاج الفلسطيني والعربي منقسم إلى قسمين حتى في الشخص الواحد. قسم منه يدين روسيا لتطوّر علاقاتها مع إسرائيل، وقسم يستذكر الدعم السوفياتي الذي ورثت عنه روسيا الحاليّة صداقة تقليدية مع العرب، واعترافاً بالدولة الفلسطينية وبالقدس الشرقية عاصمة لها. المزاج العامّ في بلادنا إزاء حرب كهذه لم ولن يستقرّ، حتى إنّه يتغيّر ويتبدّل بين نشرة أخبار وأخرى، وبين تصريح للرئيس الأميركي جو بايدن وآخر للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وبين تهديد من فلاديمير بوتين مع إشارات من الصين. غير أنّ المستقرّ هو النظرة السلبيّة لزيلينسكي الذي يغذّيها مع كلّ اتصال هاتفي يجريه مع القادة الإسرائيليين، وبعد كلّ تصريح يُشهر فيه يهوديّته كسلاح في زمن لا يجاهر فيه أحد بحشر الدين في شؤون السياسة والحرب.
المزاج المتأرجح
هذه قراءة تقريبيّة للمزاج الشعبي المتأرجح بين روسيا وأوكرانيا، وبوسعك تفهّم دوافعه من خلال الماضي والحاضر والتصاهر والأبناء والأخوال والذكريات. أمّا على جبهة السياسة فهنالك إجماع يكاد يكون مطلقاً على الشكوى من انعدام التوازن الدولي في أمر المواقف والسلوك اتجاه الاحتلال.
يشعر الفلسطينيون خصوصاً بخذلان العالم لهم حين لم يستطع فعل شيء إزاء احتلال إسرائيل بلادهم. وهو أفظع أنواع الاحتلالات التي عرفتها البشرية وأطولها مدى، بينما ينجرّ الكون كلّه نحو حرب اقتصادية تصل حدّ خنق روسيا لاحتلالها بعض أوكرانيا. من هذه الزاوية ما يشكو منه الفلسطينيون يتّحد معهم في الشكوى منه كلّ العرب وأكثر من ثلاثة أرباع العالم. غير أنّ متابعة الحرب والتعاطف مع مدنيّي أوكرانيا وتفهّم بعض الدوافع الروسية لم تخلُ من إنتاج الطرائف التي بقدر ما تثير الضحك تنطوي على بلاغة في المغزى، أهمّها تلك الطرفة التي تقول إنّ على العرب والفلسطينيين أن لا ينحازوا إلى طرف دون آخر.. لماذا؟ لأنّ التاريخ سجّل حقيقة تقول إنّه ما انحاز الفلسطينيون والعرب إلى طرف إلا وخسر.
أمّا كارهو الحروب، حتى لو كانت دوافعها منطقية، فيشخصون بأبصارهم نحو المحادثات الدائرة بين المتحاربين يحدوهم أمل بأن تتكلّل بالنجاح لحقن الدماء من كلا الجانبين ووقف تدمير المدن الأوكرانية، وخاصة مدينتيْ خاركوف وكييف، حيث الجامعات الكثيرة وذكرياتها الحميمة. وتوقّف الخوف عند محدودي الدخل من ارتفاع سعر المحروقات والقمح. وتوقّف القلق عند صغار المستثمرين هناك ومتوسّطي الحال منهم من الإفلاس الوشيك.
إقرأ أيضاً: إسرائيل بعد أوكرانيا: خسائر في إيران وسوريا
أخيراً: لعلّ انتهاء الحرب العسكرية هناك وهدوء الجبهة السياسية الاقتصادية على مستوى العالم ينبّه إلى أنّ هنالك أمكنة أخرى تستحقّ الاهتمام نفسه، وما أكثرها في الشرق الأوسط، وأقدمها فلسطين ولبنان.
قد لا ينتبه العالم كما نرجو، وقد ينتبه لكن في اتجاه آخر، إلا أنّ الأمل لا يضرّ.