ربّما تكون الطائفة السنّيّة هي المكوّن اللبناني الذي يعيش حال ارتباك سياسي هو الأكبر على أبواب العام 2022. زعيمها الأوّل، سعد الحريري، يخرج من الحياة السياسية. ومن المتوقّع أن يعلن هذا الأسبوع بيان عزوفه عن خوض الانتخابات النيابية!
مقابل ذلك لا يبدو أنّ أيّاً من شخصيّاتها السياسية قادر على تعبئة الفراغ الذي سيخلّفه هذا العزوف، خاصة في غياب الدعم العربي، وتحديداً الخليجي منذ سنوات، لأيٍّ منها. كلّ ذلك يتمّ والبلد على أبواب انتخابات نيابية استثنائية بعد “17 تشرين” وبدء الانهيار، ولا يعرف مرشّحو الطائفة تحت أيّ عنوان سيخوضونها ولا بأيّ تحالفات.
حال الارتباك لدى السُنّة وتشرذمهم السياسي ستكون لهما تداعيات على الوضع اللبناني كلّه في العام 2022 وما بعده
إضافة إلى حال الضياع على مستوى القيادات السياسية، فإنّ القلق السُنّيّ كبير على دستور الطائف في ظلّ ما نعيشه من انهيار للدولة ونظامها السياسي والاقتصادي والنقدي والمالي والاجتماعي… إنّه الدستور الذي أعطاهم صلاحيّات طالما نادوا بها وناضلوا من أجلها منذ ما قبل الاستقلال. حصلوا عليها في النص. ولكنّهم خسروها في التطبيق في ظلّ الوصاية السورية. تجربة رفيق الحريري في الحكم خير دليل. فعلى الرغم من حجمه السياسي الكبير والدعم الإقليمي والدولي له، لم يتمكّن من ممارسة كامل صلاحيّاته رئيساً للسلطة التنفيذية في البلاد، وتقاسمت “الترويكا” هذه الصلاحيّات.
ما يزيد من قلق وارتباك أبناء الطائفة في هذه المرحلة بالذات أنّ “على الكتف حمّال” (كما نقول بالعامّية اللبنانية). فحزب الله، الخصم الأوّل لها بعد تراجع الدور المسيحي، وفي ظلّ الصراع السنّيّ – الشيعي الذي يشكّل لبنان إحدى أبرز ساحاته، لديه فائض قوّة ليست فقط عسكرية وأمنيّة وماليّة، إنّما أيضاً سياسية متمثّلة في هيمنته على القرار السياسي للبلاد بقوّة سلاحه.
يعود الارتباك السنّيّ بعد مئة عام على تأسيس “لبنان الكبير”. على مدى أربعة قرون من حكم السلطنة العثمانية التي ضمّت عدّة قوميّات، كان سنّة الولايات السورية مطمئنّين إلى إمبراطورية يحكمها “خليفة المؤمنين” ولهم فيها السلطة والنفوذ والامتيازات. الوعي القومي العربي الذي نشأ في نهاية القرن التاسع عشر وتبلور أكثر في بداية القرن العشرين، خلق لديهم الطموح إلى الاستقلال عن السلطنة العثمانية بهدف تأسيس دولة عربية واحدة. إلا أنّ اتفاق الفرنسيين والبريطانيين (سايكس – بيكو) ووعد بلفور أجهضا ذاك الطموح قبل أن يولد! جعلهم الاتفاق أقلّيّة في دولة العلويين وفي دولة لبنان الكبير وفي دولة جبل الدروز، وأعطاهم دويلات في الداخل السوري من دون منفذ بحري. والوعد رهَنَ مستقبلهم في فلسطين.
في كتابه “قراءة في مواقف فاعليّات الطوائف من دولة لبنان الكبير” الصادر عن منشورات الكسليك، 2021، يروي المؤرّخ أنطوان حكيّم أنّ سُنّة لبنان تصدّوا لمشروع “لبنان الكبير” وشاركوا في المؤتمر السوري في 1920 الذي رفض الانتداب وأعلن وحدة سورية واستقلالها. وفي العام 1926 رفضوا المشاركة في إعداد الدستور الذي ثبّت الحدود والكيان اللبناني. فيما بعد ضعُفت معارضتهم وهدأت تدريجياً حتى أبرموا “الميثاق الوطني” في 1943، لكنّهم لم يرضوا بالصلاحيّات الدستورية. شعروا بالغبن في “لبنان الكبير” الذي نشأ على أنقاض متصرفيّة جبل لبنان (المسيحي – الدرزي) بعدما ضُمّت إليه المدن الساحلية “السُنّيّة”، بيروت وطرابلس وصيدا، إضافة إلى سهل البقاع الخصب وسهل عكار (ذات الغالبية السنّيّة).
قبل المتابعة، نودّ التأكيد أنّ العودة إلى تلك المرحلة من التاريخ ليست انتقاصاً من وطنيّة المسلمين السُنّة ولا نكراناً لمساهماتهم في إعلاء شأن الجمهورية الأولى وتثبيت استقلالها، وبخاصة دور زعيمهم الأوّل رياض الصلح الذي دافع “عن قضية لبنان في المنتديات العربية، وتحديداً قضية استقلاله ووضعه الخاص داخل العالم العربي” (كما ذكر فريد الخازن في كتابه “تفكّك أوصال الدولة في لبنان 1967-1976”)، والدور المحوري لزعيمهم الثاني رفيق الحريري في بناء الجمهورية الثانية، ولا تنكّراً لنضالهم الأساسي في تحقيق “الاستقلال الثاني” وسعيهم اليوم من أجل “الاستقلال الثالث”. فهم أصحاب شعار “لبنان أوّلاً” الذي هو فعل إيمان عميق بلبنان.
عقد التسوية الرئاسية في العام 2016 التي أوصلت ميشال عون حليف حزب الله الأوّل، إلى بعبدا. فخسروا بعدها الدعم العربي، وتحديداً السعودي
بالعودة إلى موضوعنا الأساس، يجد السُنّة أنفسهم اليوم أمام ارتباك لا يقلّ أهميّة عن الارتباك الذي عاشوه بعد سقوط حلم عشرينيات القرن الماضي، خاصة أنّ لبنان، في بداية عشرينيات القرن الحالي، أمام مرحلة تأسيسية جديدة لنظامه، وربّما لدستوره.
يعود وصول سُنّة لبنان إلى هذه الحال من الارتباك السياسي إلى عدّة أسباب أبرزها:
1- الصدمة الكبيرة التي ما زالوا تحت تأثيرها بعد استشهاد رفيق الحريري، الزعيم الذي أعاد لأهل السُنّة مكانتهم في التركيبة اللبنانية بعدما عمِل النظام السوري، على مدى سنوات الحرب، على إضعافهم وتهميشهم.
2- عدم جهوزيّة سعد الحريري لوراثة والده سياسيّاً وقيادة الطائفة في ظلّ مواجهة سنّيّة – شيعيّة محليّة وإقليمية كبرى.
3- تقاعسهم عن الوقوف بوجه حزب الله في 7 أيار 2008 الشهير في بيروت، الذي شكّل بداية الهجوم المعاكس للحزب ضدّ فريق 14 آذار وبداية فرض سيطرته بقوّة سلاحه على الدولة اللبنانيّة ومؤسّساتها الدستوريّة.
4- عدم قدرة الدولة اللبنانيّة على التعامل مع قوّة حزب الله العسكريّة والأمنيّة والماليّة، التي خلقتها طهران في لبنان ورعتها دمشق، ومعالجتها. فكانت الحوارات الوطنية غير مُجدية. فالحزب ضرب ببياناتها عرض الحائط، وأبرزها “إعلان بعبدا” وتحييد لبنان الذي وافق عليه.
5- تراجع دور المسيحيين، شركائهم في ميثاق 1943، ومساهمة التيار الوطني الحرّ في الهجوم على الطائفة السنّيّة وإضعافها، معتبراً أنّ استعادة حقوق المسيحيين تكون أوّلاً باستهداف السُنّة، محيّداً الشيعة، حلفاءه الجُدد، مع العلم أنّهم مَن طوّروا دورهم وموقعهم في السلطة والإدارة على حساب موقع المسيحيين ودورهم بدعم من الوصاية السورية.
6- سياسة ربط النزاع التي اعتمدوها مع حزب الله ابتداءً من العام 2014. فكانت تسليماً بقوّة الحزب واستسلاماً لهيمنته على الدولة وخطفها لمصلحة المشروع الإيراني.
7- عقد التسوية الرئاسية في العام 2016 التي أوصلت ميشال عون حليف حزب الله الأوّل، إلى بعبدا. فخسروا بعدها الدعم العربي، وتحديداً السعودي الذي يقود المواجهة ضدّ إيران ونفوذها في المنطقة.
8- تراجع الدور العربي – السنّيّ في الإقليم، وارتباكه هو أيضاً أمام نفوذ إيران الشيعيّة، وقوّة إسرائيل اليهوديّة، وطموحات تركيا العثمانية الجديدة.
إقرأ أيضاً: 2021: أتعبتنا يا شيخ رفيق..
حال الارتباك لدى السُنّة وتشرذمهم السياسي ستكون لهما تداعيات على الوضع اللبناني كلّه في العام 2022 وما بعده، وسينتج عنهما اختلال في التوازن الوطني واستمرار لحال عدم الاستقرار السياسي في البلاد، ولن يُصلحا علاقات لبنان العربية، وتحديداً الخليجية، التي هي ضروريّة للخروج من حال الانهيار. وبدون إدارة سنّيّة قويّة سيَقوى حزب الله في الداخل، ولن يكون بمقدور حلفائهم المسيحيين مواجهة مشروعه وتحقيق “الدولة الفعليّة”. وستزيد لدى حلفائهم التاريخيّين والتقليديين الدروز حال القلق والارتباك على دورهم ووجودهم السياسيّيْن.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية