في البيانات المشتركة الخمسة، التي صدرت خلال زيارات وليّ العهد السعودي لخمس دولٍ خليجية، دلالاتٌ عدّة لا تخطئها العين المتبصّرة.
أولى تلك الدلالات الاهتمام الظاهر، إلى جانب التعاون الاقتصادي البيني وصولاً إلى التكامل، بالتركيز على استعادة الأمن والاستقرار والعيش الطبيعي وسلام الناس وسلامتهم واستقلال الدول في البلدان العربية الخمسة المضطربة: سورية ولبنان والعراق وليبيا واليمن. أمّا السودان فتذكر البيانات ضرورة مساعدته لتجاوُز المرحلة الانتقالية والوصول إلى النظام السياسي المدني الذي يحظى بدعم الشعب في الانتخابات.
وما توقّفت الدول الخليجية عن الاهتمام بالسلم الداخلي في الأنظمة التي اضطربت منذ العام 2011. لكنّ هذا الاهتمام الآن بدا شاملاً وحثيثاً، وقد دفع باتجاهه، ولا شكّ، حضور وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان.
اعتبر وليّ العهد محمد بن سلمان أنّ مشكلة لبنان الأولى تتمثّل في مفارقة الطائف والدستور، وفي تحوُّل لبنان إلى بيئةٍ للسلاح غير الشرعي
وثانية تلك الدلالات أنّ الاهتمام الشامل هذا ما بدا إنشائياً أو خطابياً، بل ركّز على الحلول العمليّة والأخرى التي أفادتها القرارات الدولية في مجلس الأمن:
1- قرارات الأُمم المتحدة في ليبيا التي تصل هذه الأيام إلى مشارف الانتخابات الرئاسية والنيابية.
2- والقرار الدولي رقم 2254 بالنسبة إلى سورية، وهو الحلّ السياسي المطلوب والمرغوب من معظم الدول العربية ودول العالم.
3- والقرار الدولي رقم 2216 بشأن اليمن، الذي يناضل الجيش الوطني اليمني والتحالف العربي لإرغام الحوثيين على الإصغاء له باعتباره الحلَّ السياسيّ، الذي أقرَّه مجلس الأمن لاستعادة السلم والاستقرار وإخراج الشعب اليمني من التهجير والمجاعات.
4- ودعم الشعب العراقي والحكومة العراقية في السعي إلى الاستقرار وإكمال الاستقلال وتشكيل الحكومة القادرة بعد الانتخابا.
5- ودعم استقلال لبنان وأمنه وسلامه ونمط عيشه بالعودة إلى ثوابت الطائف والدستور، وإنفاذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، وانفراد الدولة اللبنانية بالسلاح والسلطات على الأرض، واستنكار التدخّل الإيراني وسلاح الحزب المضرّ بأمن اللبنانيين وأمن الدول العربية (بخاصة في البيان المشترك على أثر زيارة وليّ العهد السعودي لدولة الإمارات). وقد كان الحديث عن لبنان هو الأكثر طولاً وتحديداً أو تفصيلاً. وبخلاف الحديث عن الدول المضطربة الأخرى، فقد وردت مطالب واضحة يكون على السلطات اللبنانية الرسمية التصدّي لإحقاقها. وسنعود لذلك.
وثالثة تلك الدلالات لم تُذكَرْ في البيانات المشتركة، لكنّها ظلّت شديدة الوضوح وليس منذ الآن، بل ومنذ الأعوام ما بين 2001 و2006. فعلى أثر حدث نيويورك الهائل عام 2001، حوصرت كلّ الدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، تحت وطأة المسؤولية المزعومة عن الإرهاب، وجرى شنُّ الحرب العالمية على الإرهاب الإسلامي (السنّيّ). ومع وفيات أو قتل القادة العرب خلال تلك السنوات الخمس الخطيرة من الملك الحسن الثاني إلى الملك حسين وإلى الملك فهد وإلى الرئيس ياسر عرفات وإلى الرئيس رفيق الحريري وإلى الرئيسين حافظ الأسد وصدّام حسين، بدت الدول الوطنية العربية في حالة فراغٍ متفاقمٍ من القيادات والسياسات المشتركة. وإذا كانت الولايات المتحدة قد اعتبرت غزواتها لأفغانستان والعراق دفاعاً عن النفس وإحقاقاً للأمن الوطني الأميركي، وتحريراً للإسلام ممّن اختطفوه من المتطرّفين والإرهابيين (!)، فإنّ إيران ربحت مرّتين:
– مرّة باستغلال الفراغ للتدخّل بنشر ميليشياتها في العراق وسورية ولبنان ولاحقاً في اليمن.
– ومرّةً ثانية باعتبار نفسها واعتبار أميركا عمليّاً لها (كما قال الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما من بعد في مقابلته الشهيرة مع مجلّة “أتلانتيك”) “ممثّلةً للإسلام المعتدل” (!)، فقتلت واجتاحت ودمّرت هي بدورها بحجّة مكافحة الإرهاب السنّيّ. وهو الأمر الذي وضعه الجنرال والرئيس ميشال عون في ذروة اعتباراته عندما أقام “تحالف الأقلّيّات” مع زعيم حزب الله عام 2006.
ولنتأمّل هذا الاستهداف للعرب من خلال استهداف الإسلام السنّيّ الذي يشكّل أكثريّات في العالمين العربي والإسلامي. ولنتأمّل أيضاً هذا الحصار المزدوج للمملكة العربية السعودية من جانب إيران ومن جانب الولايات المتحدة، وبخاصّةٍ بعد انتهاء ولاية جورج بوش الابن الثانية ومجيء ولايتيْ أوباما الفظيعتين على العرب وعلى المسلمين.
ظلّت المملكة قلعةً صامدة حين كانت الدول والإدارات تتداعى تحت وطأة هجمات الحصارات، والإرهاب والتدخّلات. والحاصل الآن، بالإضافة إلى ملايين القتلى والجرحى والخراب، حوالى عشرين مليوناً من المهجّرين من سورية والعراق واليمن، وسوادهم الأعظم من السُنّة.
ورابعة تلك الدلالات وأبرزها تنقسم إلى قسمين:
– الأوّل يتعلّق بالتصدّي السعودي من خلال وليّ العهد لقيادة مجلس التعاون بوضوح، وتبعاً لذلك قيادة العمل العربي المشترك من أجل الإنقاذ. وسيظهر ذلك في مناسبتين: قمّة مجلس التعاون والقمّة العربية بالرياض.
– أمّا القسم الثاني فيتمثّل في أنّ المملكة لا تخاطب من موقع القيادة وحسْب، بل ومن موقع المسؤولية باعتبار أنّ أوضاع الدول الخمس ما عادت تحتمل الصبر ولا الإرجاء، إذ يعاني فيها زهاء مئة مليون عربي إنساناً وعمراناً وأمناً واستقراراً. وهكذا فالمملكة، ومن ورائها عرب الخليج، يعلنون عن استعدادهم بقيادة المملكة للتعاون فيما بينهم ومع العالم الدولي لإخراج بلدان المشرق العربي واليمن من وطأة التدخّلات والاستنزافات بالقتل والتهجير فضلاً عن الانسجام المصري الذي بدا واضحاً من مشاركة وزير الخارجية المصري مع زملائه الخليجيين في مؤتمر التحضير لقمة دول مجلس التعاون.
نعم، تعود المملكة لتتحرَّر وتحرِّر. تتحرَّر بإطلاق مبادرات التنمية الكبرى بالداخل ومع الخارج العربي والعالمي. ثمّ هي تتصدّى اليوم وبنفس الوتيرة والهمّة لتحرِّر العروبة والإسلام من الذين اختطفوهما، من أميركيين وإيرانيين وأتراكاً وميليشياتِ إجرامٍ، تارةً باسم السُنّة، وطوراً باسم الشيعة، وضدّ العرب في كلّ الحالات.
ما فهمت المملكة، وهي في أقسى الظروف، أنّ الصراع شيعيّ – سنّيّ، وإلاّ لَما دعمت وما تزال حكومة العراق. ولا سلّمت بأنّ الإسلام (ومهده بلاد الحرمين) قد سيطر عليه التطرّف. وأوّلاً وآخِراً ما سلّمت قيادة المملكة في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز أنّ العروبة ستختفي من المشرق أو أنّ الشعوبيّين سيحدّدون مصائرها. ولذلك أقبلت بعد التحرُّر للتحرير وجمع الكلمة من أجل النهوض. وتريد المملكة ويريد وليّ العهد السعودي أن لا يكون هناك استقواء ولا استضعاف بالدواخل العربية بعودة الجميع للدولة الوطنية العربية الحامية والواثقة من شعبها وتجاه محيطها.
ولنعُدْ إلى لبنان الذي عالج وليّ العهد السعودي مشكلاته وشخّصها مع القادة الخليجيين، وقد فعل ذلك في سياقٍ آخر مع الرئيس الفرنسي أيضاً. لقد اعتبر وليّ العهد محمد بن سلمان أنّ مشكلة لبنان الأولى تتمثّل في مفارقة الطائف والدستور، وفي تحوُّل لبنان إلى بيئةٍ للسلاح غير الشرعي الذي، لمصلحة إيران، يستهدف الشعب اللبناني ودول الخليج واليمن في الوقت نفسه، بالسلاح وصولاً إلى المخدّرات. وهو يدعو اللبنانيين، وفي طليعتهم السُنّة، إلى استعادة دولتهم وشرعيّاتهم وعيشهم المشترك، ويعلن بتمهل هو وإخوانه في الخليج عن رغبتهم مساعدتهم في ذلك وعلى ذلك.
المسألة بالنسبة إلى وليّ العهد في كلّ الحالات هي مسألة استعادة الدولة الوطنية العربية، في هذا الصراع الاستراتيجي الكبير الذي يُستخدَمُ فيه كلّ شيء، من الدين إلى الجغرافية، إلى حزازات الطوائف والعناصر، وإلى التنازع على مناطق النفوذ، وكلّها عربية.
حضرت القيادة السعودية طليعةً للخليج العربي، فسارع للاحتماء بها العراقيون واليمنيون والسوريون. وقد عرفها اللبنانيون وجرّبوا عنايتها ورعايتها في كلّ أزماتهم، وقد كتبوا دستور سلامهم على أرضها. ويكون عليهم أن يسارعوا إليها اليوم من أجل الإنقاذ كما فعلوا من قبل ونجوا.
إقرأ أيضاً: لبنان.. ماذا بعد؟
كان اليمنيون يقولون قديماً: “لا بدّ من صنعا وإن طال السفر”. أمّا اليوم وبعد شقاء عقدين فإنّ اليمنيين والعراقيين واللبنانيين يقولون بلسان الحال والمقال: “لا بدّ من الرياض لينتهي التعب والجوع والتهجير ويكون العرب عرباً”.
نعم، أيّها اللبنانيون والعرب: المملكة سفينة النجاة وسط أعاصير البرّ والبحر.