في خطاب الوجود والخطر والحروب والدفاع يحضر التاريخ والجغرافيا بكلّ ما فيهما من أثر في تكوين خصوصية الشعوب والطوائف. وللدخول مباشرة في صلب الموضوع لا بدّ من الكلام عن خصوصيّة الأقلّيّات، التي تعيش في لبنان والمنطقة، المتمثّلة في أنّها دائماً متحالفة بعضها مع البعض الآخر، باستثناء يهود إسرائيل، وفي أن لا أقليّة تهدّد أقليّة أخرى بفائق أعدادها أو قدرتها العسكرية.
بعد سيطرة القوات المسيحية المقاتلة على أميون وبطرام وشكّا، التقت في الساحل بهدف مواصلة الهجوم باتّجاه طرابلس. ثم انتهى القتال بعد اتصال الرئيس السوري حافظ الأسد بنظيره اللبناني سليمان فرنجية، طالباً وقف القوات المسيحية المعارك، وضامناً له عدم حصول هجوم آخر مماثل
فقد أثبت التاريخ، لِمَن يقرأه جيّداً، أنّ الأقلّيّات تخوض معاركها أيضاً. والدليل أنّ المسيحيين قاتلوا تاريخيّاً كأقليّات في أكثريّات، ولعلّ آخِرة المعارك كانت في الحرب اللبنانية. وقبل الدخول في بعض ما ورد في خطاب الأمين العامّ لحزب الله حسن نصرالله، لا بدّ من سرد رواية من روايات الحرب يرويها مقاتلون سابقون في جلساتهم على فنجان القهوة اللبنانية التقليدية، بحنين ممزوج بحماسة حاضرة دائماً، متذكّرين المعركة التي “علّمت بأحداثها في التاريخ الحديث.”
“في تموز 1976، في السنين الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية، قام الفلسطينيون والقوميون والحركات اليسارية وكل من انضوى تحت جناح “الحركة الوطنية” بهجوم انطلقوا فيه من طرابلس باتجاه قضاء الكورة. يومئذٍ سيطروا على الكورة وشكّا، وواصلوا هجومهم باتّجاه البترون وجبيل، بهدف إسقاط جبل لبنان، حيث أحزاب “الجبهة اللبنانية”.
وقتذاك قرع المسيحيون أجراس الكنائس من قمم بشرّي إلى قمم الشوف، مروراً بالساحل. نسي المسيحيون اختلافاتهم السياسية، التي كان بعضها عميقاً، وقرّروا كلهم، المتمرّسون منهم بالقتال وغير المتمرّسين، الدفاع عن منطقتهم. تحوّلوا إلى “قوات” مقاتلة. منهم مَن حمل مسدّسه، ومنهم مَن حمل بندقيّته، ومنهم مَن حمل معوله ورفشه وكلّ ما يستطيع القتال به. نفّذوا خطة منسّقة أثناء هجوم قوّاتهم المضاد. أهل بشرّي قادهم سمير جعجع، يوم كان لا يزال في العشرينيّات من عمره، وتوجّهوا نحو أميون وكفرحزير ودار بعشتار. أهل زغرتا قادهم طوني فرنجية باتّجاه بطرام. ومن المتن وكسروان باتّجاه البترون، قاد أمين الجميل القوات المقاتلة ووصل بهم إلى شكّا. في تلك الموقعة ارتكب الفريقان المجازر، وسقطت دماء شباب وأطفال ونساء.
وبعد سيطرة القوات المسيحية المقاتلة على أميون وبطرام وشكّا، التقت في الساحل بهدف مواصلة الهجوم باتّجاه طرابلس. ثم انتهى القتال بعد اتصال الرئيس السوري حافظ الأسد بنظيره اللبناني سليمان فرنجية، طالباً وقف القوات المسيحية المعارك، وضامناً له عدم حصول هجوم آخر مماثل”.
يستذكر المقاتلون القدامى هذه الأحداث وما تخلّلها من مجازر لا أحد يريد استرجاعها، مدركين أنّ واقع حال المسيحيين تغيّر مذّاك، وأنّ واقع الأرض والديموغرافيا والسياسة تغيّر أيضاً مذّاك، لكن ما لم يتغيّر هو القدرة على الوحدة فجأة بوجه أيّ “خصم”، وعودة الاصطفاف المسيحي المسلم متى دعت الحاجة إلى ذلك.
استمرّت مخاطبة نصرالله المسيحيين حوالي ساعة من الوقت لإقناعهم بأنّ سمير جعجع هو العدوّ الحقيقي لهم قبل أن يطلب من القوّاتيين أن يتأدّبوا لأنّ لديه مئة ألف مقاتل مستعدّين للقتال في الداخل اللبناني، في إشارة إلى أنّه يستطيع السيطرة على الأرض وأهلها في وقت قياسيّ
100 ألف؟
وعليه، لا بدّ من مقاربة كلام الأمين العامّ لحزب الله السيّد حسن نصرالله عن امتلاكه مئة ألف مقاتل يستطيعون السيطرة على الأرض وعلى أهلها، بهدوء ومن دون عصبيّة تحاكي العصبيّة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل بيئة وجمهور حزب الله المحتفي بفائض قوّته. وقد أطلق جمهور نصر الله الرصاص احتفالاً بدعوته اللبنانية “المسيحية” إلى أن تتأدّب. وذلك مقابل تجاهل نصرالله بشكل تامّ قيام مجموعات مناصرة له بتحطيم ما طاب لها في شوارع عين الرمّانة تحت شعار “شيعة شيعة شيعة”.
بناءً عليه، وفي جلسات نقاش من أجل “تفكيك” الخطاب، وجد بعض المقاتلين السابقين والحزبيين الحاليين وغير الحزبيين الفاعلين على الساحة المسيحية، أنّ نصرالله بدا في توجّهه إلى المسيحيّين غير عالم بجوهر بيئتهم، ولا منتبهاً لما تحوّلت إليه البيئة المسيحية أوّلاً، ثمّ السنّيّة والدرزيّة وجزء من البيئة الشيعية ثانياً. صحيح أنّ البعض وضع خطابه في سياق استيعاب غضب جمهوره، بعد سقوط سبع ضحايا يوم الخميس الدامي، لكن على الرغم من ذلك، تحتاج مخاطبة نصرالله للمسيحيّين وللقوات إلى قراءة نقدية.
وفي هذه القراءة مجموعة من الملاحظات، بدءاً من الشكل ووصولاً إلى المضمون، وما بينهما من رسائل، سواء صائبة كانت أم غير صائبة.
– في الشكل: أثناء محاولات نصرالله تطمين المسيحيين في مواجهة “محاولات تخويفهم من حزب الله”، كان جمهور الحزب يمطر السماء بالرصاص الحيّ.
– في المضمون: استمرّت مخاطبة نصرالله المسيحيين حوالي ساعة من الوقت لإقناعهم بأنّ سمير جعجع هو العدوّ الحقيقي لهم قبل أن يطلب من القوّاتيين أن يتأدّبوا لأنّ لديه مئة ألف مقاتل مستعدّين للقتال في الداخل اللبناني، في إشارة إلى أنّه يستطيع السيطرة على الأرض وأهلها في وقت قياسيّ.
تكلّم نصرالله عن قدرة حزبه العسكرية من دون أن يدرك أنّه مهما تعاظمت قوّته الإقليمية يكفي أن يكون لبنانيّ واحد ضدّه كي يصطفّ خلفه لبنانيّون آخرون. فكيف إذا كان هذا الذي يقف ضدّ نصرالله حزباً مسيحيّاً وشارعاً مسيحيّاً وسنّيّاً ودرزياً وجزءاً ولو بسيطاً من الشيعة. أو بالأحرى كيف لو كان حلفاؤه محرجين هذا الإحراج من تموضعه الأخير في المعركة القضائية مع القاضي طارق البيطار، ومن تموضعه في الشارع بين الطيّونة وعين الرمّانة؟ حتى بلغ الأمر بحليفه جبران باسيل أن هاجم علناً تعدّي مجموعات الحزب على “قلعة الصمود القواتية”. وبلغ الأمر بحليفه الآخر سليمان فرنجية أن أسرع إلى التسريب للإعلام أنّه لن يقاطع أيّ جلسة لمجلس الوزراء على خلفيّة الانقسام حول مهمّة المحقّق العدلي، وإلى التأكيد أنّه ليس مشاركاً في تظاهرة “الخميس الأسود” من الأساس.
كيف يمكن لِما قاله نصرالله أن يرسِّخ قناعة لدى المسيحيين، فيما مسلسل التخوين مستمرّ لكلّ مخالفٍ لرأي جمهور الحزب، حتى بلغ الأمر ببعبدا وميرنا الشالوحي رفض منطق التخوين، وهم مَن نسجوا ورقة تفاهم كان يُفترض بها أن تلغي خطوط التماس التي بقيت حيّة تُرزَق بعد أكثر من عشر سنوات على اتفاق مار مخايل؟
كيف يُقنِع نصرالله المسيحيّين أنّ سمير جعجع عدوّهم وميشال عون صديقهم، ومنذ أيّام فقط شنّ إعلاميّو الحزب أعنف هجوم على رئيس الجمهورية الذي حمى ظهر المقاومة في أعنف حرب شُنّت على لبنان عام 2006؟
“قلة وفاء” عون!
كيف يُقنِع نصرالله المسيحيّين أنّ سمير جعجع عدوّهم وميشال عون صديقهم، ومنذ أيّام فقط شنّ إعلاميّو الحزب أعنف هجوم على رئيس الجمهورية الذي حمى ظهر المقاومة في أعنف حرب شُنّت على لبنان عام 2006؟
“لو تمثّلت قلّة الوفاء بشخص لكان مستشار ميشال عون”، قال بعضهم. فقط لأنّه يدافع عن منطق فصل السلطات وعن عمل القاضي البيطار في وجه المطالبة بكفّ يده. اُستُكمل الهجوم على جبران باسيل الذي يخضع لعقوبات أميركية يقول إنّها بسبب تحالفه مع حزب الله: “يعلم جبران باسيل جيّداً أنّه لولا الحزب ما كان هذا هو حجمه النيابي”، و”يسعى البعض لبيعنا لدى الأميركيين”. هذه عيّنة من المنطق الذي انتشر على مواقع التواصل في الأيام الأخيرة بعد الإشكال الذي وقع في مجلس الوزراء بين وزراء أمل والحزب من جهة، ورئيس الجمهورية من جهة أخرى.
كيف يُقنِع نصرالله المسيحيين بصوابيّة وفعّاليّة ورقة “تفاهم مار مخايل” بينه وبين عون، فيما يرفض حزب الله حتى الساعة مناقشة البند الموجود فيها المتعلّق بالفارّين إلى إسرائيل، ويصف خطابه كلّ مَن يطالب بتطبيق البند بـ”الخائن” و”العميل”؟
كيف يُقنِع نصرالله المسيحيين بأن لا يتحوّلوا إلى “قوات” مسلّحة، ولو بالعصيّ، عند دخول مجموعات من شبّان القمصان السود إلى الأحياء هاتفين شعارات مذهبيّة؟
كيف يُقنِعهم بأن لا خطر عليهم بعد أقلّ من شهرين على تحطيم مزاراتهم الدينية في مغدوشة شرق صيدا على وقع شعارات مذهبيّة؟
كيف يُقنِعهم بأنّه حماهم في سوريا والعراق ولم يحمِهم من “التهجير” من الضاحية وحارة حريك، ولم يجد حلّاً شاملاً مرضياً لقضيّة أراضي لاسا في جبيل حتى الساعة؟
كيف يُقنِعهم أنّ سمير جعجع تحالف مع داعش والنصرة، فيما تشارك حزب الله والدولة اللبنانية في وضع تسوية لخروج مقاتلي داعش في باصات مكيّفة بعد معركة الجرود؟
اُختُتمت جملة الأسئلة هذه بخلاصة سبق أن خرج بها كُثُر.
تحدّثت هذه الخلاصة عن “هديّة نصرالله الانتخابية لجعجع”، قبل عيد ميلاد الأخير، في 25 تشرين الأول الحالي. وهو أمر وصفه المراقبون بالمنطقيّ قياساً على ما جرى في التاريخ. فالاستفراد بأيّ مسيحي يصنع منه زعيماً في وسطه، كما حدث مع الرئيس ميشال عون في انتخابات 2005، وكما حدث سابقاً مع يوسف بك كرم وطانيوس شاهين. يعود ذلك إلى أنّ المسيحيين، وعلى الرغم من تصرّفهم باستعلاء وبفائض قوّة في مرحلة ما بين 1943 و1975، إلا أنّ الهاجس الأقلّويّ ظلّ مسيطراً عليهم. وهو هاجس لا يُمكن طمسه إلا ببناء دولة مدنيّة، أو باصطفاف طائفي حادّ، حتى لو أدّى الأمر إلى استيلاد جنون مدمّر.
لذلك رأى كثيرون أنّ صيغة الـ100 ألف مقاتل مقابل 15 ألف هي صيغة بلا تأثير جديّ. يسأل مَن اعتبر نفسه معنيّاً بخطاب الأمين العامّ: “ألا تقوم عقيدة الحزب على أنّ فئات قليلة تهدّد فئات كبيرة؟ ومنذ متى أقلّيّات تهدّد أقليّات؟ لذا فالمئة ألف مقاتل يساوون صفراً في معادلة لبنان الطائفية.”
لعلّ أكثر مَن عبّر عن ذلك هو رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط عندما تحدّث في كلامه الأخير عن رفض عزل الطائفة الشيعية، “مثلها مثل الطوائف الأخرى”.
ختاماً، يخلص مراقبون لتطوّرات الحرب والسلم ومتغيّرات الأنظمة إلى أنّ “القطار قد فات على تطمين المسيحيين وأيّ طائفة أخرى في لبنان. فرأب التصدّعات بين اللبنانيين أصبح صعباً جدّاً لأنّ حجم الكراهية فاق الأرقام القياسية. وحده الذهاب بعقول ونفوس منفتحة إلى حوار عميق يتناول إشكالية النظام والاستراتيجية الدفاعيّة وغيرهما، هو الطريق إلى محاولة الحلّ على الأقلّ”. وإلّا فإنّ أيّ خيار عسكري سيحوِّل كلّ المسيحيين إلى “قوّات” مسلّحة لا تكون بالضرورة قوّات حزبيّة، تماماً كما تحوّلوا في تلك الأحداث المشؤومة من الحرب اللبنانية. وربّما يؤدّي هذا الخيار إلى زيارة حليف المقاومة جبران باسيل معراب مثلاً.
إقرأ أيضاً: نصر الله يفتتح الانتخابات: المعركة في الأرض المسيحيّة
مَن يعلم كيف تتحوّل الأحداث عند الخطر؟
أخيراً، لا يحبّ المسيحيّون فكرة حمايتهم وحماية وجودهم وكأنّهم قاصرون. يستفزّهم هذا الكلام. فهم لا يزالون على قناعتهم بأنّهم شياطين هذا الشرق وقدّيسوه. وهم وقت “الخطر”.. قوّات، كما كانوا في تموز 1976، من قمم بشرّي إلى قمم الشوف.